قائمة المحتويات :
- د. عبد الرحمن بشير يكتب: العقول بين الاحتلال والاستقلال والإبداع - الثلاثاء _5 _يناير _2021AH 5-1-2021AD
- د. عبد الرحمن بشير يكتب: الأمة بين التدين المغشوش والعلمانية الجائرة - الجمعة _18 _ديسمبر _2020AH 18-12-2020AD
- د. عبد الرحمن بشير يكتب: فتاوى علماء السعودية حسب الطلب - السبت _28 _نوفمبر _2020AH 28-11-2020AD
إن الاستعمار الثقافي أشد خطورة من الاستعمار المباشر للأراضي، ذلك لأن الأول يجعل الإنسان تابعا لغيره برضاه، بينما الثاني يجعل الأرض محتلة بالقوة والإكراه، وهنا مكمن الخطورة، فالإنسان المعد لقبول الاستعمار يؤدى في الغالب الأعم إلى الاستعباد .
في العالم اليوم ثقافة عجيبة جدا، وهي التي تتحدث عن عالمين، عالم الشمال الذي صار بالقوة منتجا للثقافة، وعالم الجنوب الذي صار واقعا مستقبلا للثقافة، غير منتج، والسبب هو أنه فقد الفاعلية والقوة معا.
إن من أخطر الهزائم في حياة الشعوب، الهزيمة الفكرية، وذلك حين يقتنع الإنسان بأن ما لدى غيره أفضل، وأنه لا يملك مقومات البقاء والاستمرار ما لم يكن تابعا، ولهذا نسمع كثيرا التجارب الناجحة غربيا، ولا نجد من يتحدث عن التجارب الناجحة في العالم، بل نرى من وسائل الإعلام المعاصر حربا علنيا وصريحا على كل التجارب البشرية غير الغربية.
رأينا بأن بعض المسلمين يعيشون حالات هستيرية وغريبة، ولكن لا نجد علاجا جيدا لهذه الحالات من جانب الدعاة والعلماء، ذلك لأن البعض من العلماء لا يقدرون خطورة هذه الحالات المرتبطة بالعقول والأنفس، وكم رأيت من بعض الوعاظ الذين تخصصوا في قراءة القرآن على المرضى الذين يشكون من حالات نفسية عميقة نتجت من عدم المعرفة السليمة للواقع، وهم يعيشون تحت الصدمات الكهربائية في الغرب (الصدمة الحضارية العنيفة).
ليس صحيحا بحال من الأحوال أن نعالج المرضى النفسانيين بقراءة القرآن فقط، فليس كتاب الله محلا لهذه التفاهات، فهو كتاب يعالج الأمراض النفسية والعقلية والسياسية والاجتماعية، لأنه يقدم للناس حلولا ناجعا، وناجحا، وليس الكتاب العزيز طلاسم، حاشاه، يعرفه البعض، ويغيب مفاهيمه عن البعض، ولهذا ندعو المسلمين إلى تغيير علاقتهم مع الكتاب العزيز، فهو كتاب للقراءة والتأمل والتدبر والاتعاظ، وبالتالي يمكن للمسلمين أن يستخرجوا منه الأحكام والحلول، وكم هي جريمة المسلمين عظيمة حين حولوه إلى كتاب للتبرك فقط (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا).
العقول في العالم الإسلامي أنواع وأنماط
حاولت أن أقرأ الخرائط الفكرية للمسلمين في هذه المرحلة، وهي مرحلة خطيرة بكل ما تعنى الكلمة من معنى، هناك مسلمون استيقظوا من النوم، ولكنهم ليسوا صاحين تماما، وهناك آخرون ناموا في النور، ولكنهم لا يعرفون بأنهم في سبات عميق، وبين الجماعتين جماعات كثيرة، تدعو إلى العودة إلى الإسلام، ولكن ليس لواحدة منها خريطة العودة، بل يؤكدون في خطابهم حتمية العودة، وفي الجانب الآخر مجموعات متغربة فكريا، وتدعو بدون خجل إلى تغيير الجلد بقوة السلطان (سندمرهم)، أو يعملون في تغيير المناهج التعليمية والتربوية المعدلة أصلا، والفاشلة، والتي صنعت الواقع الأسوأ في التاريخ، ومع هذا، يوجد من يخطط في التغيير، والتعديل، وطرح منهجا أكثر منه فشلا .
عقول العالم الإسلامي، في جملتها فاشلة
أولا : العقول المحتلة، والتي تم احتلالها من الأعداء قديما وحديثا، بل وتم إعدادها في المدارس الإستخباراتية لتلعب دورا مرسوما في الأمة، ولهذا نجد اليوم الصيحات الفارغة في الحرب على النص الديني، وخاصة السنة المطهرة، وعلى رموز الأمة، وخاصة للذين حفظوا للأمة السنة من الأصحاب (أبو هُريرة، وعائشة، والعبادلة)، كما لاحظنا في الإعلام العربي الرسمي الهجمة الشرسة على السنة النبوية.
نحن لسنا ضد المنهج العلمي فينقد الروايات والمتون، ولكن الذى نرفضه هو الهجمة الشرسة على الوحي لتحقيق أهداف سياسية، وهي في جملتها تأتى من الذين تم احتلال عقولهم من قبل الآخرين الذين عرفوا مكامن قوة الأمة، ولهذا تم تخطيط هدم الحصون من الداخل.
ثانيا: العقول المغيبة، والتي تعيش في لحظات أخرى، وتحمل هموما لا محل لها من الإعراب، بل وتؤدى هي الأخرى أدوار مرسومة لها من قبل الأعداء، ولكن العقول السابقة تعرف ما تعمل، لأنها اقتنعت بذلك، ولكن المجموعات الثانية، تعمل في المشروع بدون خطة، بل هي مستخدمة من قبل الأعداء.
إن أغلب المنتمين إلى هذه المجموعة هي العقول المؤمنة، وغير الواعية، ولهذا فهي مغيبة وحاضرة، وربما لأصحابها الصوت العالي، والسؤال هو، كيف يكون حال الأمة التي تشكو من الحالتين معا، تغييب العقول، واحتلالها؟
ثالثا: العقول الحرفية، والمفتونة بالحفظ فقط دون الفهم، فهذا النوع من البشر لهم وجود فائض فيداخل الصحوة الإسلامية، ذلك لأن البعض من علماء الأمة أقنعوا بعض الشباب أهمية الحفظ للمتون، وهي خطوة جيدة، ولكنها ليست الخطوة المطلوبة، والوحيدة، ونحن نعرف أن الجيل الأول من المحدثين كانوا فقهاء قبل أن يكونا نقلة نصوص، وتفهم فقه البخاري، ومسلم فيكيفية إيراد النص، ووضعه في الموقع من الكتاب، وعدم قطع النص من سياقه، وسبب وروده، والمقصد منه.
رابعا : العقول التقليدية، وهي التي يقرأ أصحابها الحياة من خلال الماضي، فهي عقول متحجرة حينا، ومتعصبة حينا آخر، وهناك علاقة جدلية ما بين التحجر والتعصب، فإذا رأيت متعصبا بدون دليل، فاعلم أنك أمام إنسان ليس مستعدا لقبول الرأي والرأي الآخر.
إن العقل التقليدي يقدس الفكر، ولا يحترم العقل، ويمشى وراء الفكرة، ولا يسأل الدليل، ويحب الاستماع، ويكره النقاش، فهو مبرمج من قبل الأموات الذين واجهوا حياتهم بالدليل، ولكنه يواجه حياته بفكرة الذين سبقوه في الحياة.
ما البديل؟
نعيش اليوم كارثة ثقافية خطيرة، وتؤدى بشكل مستمر الأزمات الفكرية التي تعيشها الأمة، وتحدثنا جزءا منها في مقالنا هذا، وقد لاحظ بعض المفكرين كالأستاذ طه جابر العلواني رحمه الله الأزمة التي تعانيها الأمة، ووجدوها في الفكر، ولهذا يكون الحل فكريا، وليس غير ذلك.
نحن نريد أن نصنع العقل المسلم المبدع الخلاق، ذلك العقل الذي لا يخاف من المواجهة، ولكنه يتسلح بالمعرفة الواسعة والدقيقة، وبهذا نستطيع أن نتحرر من أزمة احتلال العقول، وتغييبها، وجعلها مستودعا للأفكار دون غربلة، والتعصب الأعمى للأقوال دون تمحيص لها.
إن بناء العقل المبدع الخلاق مهمة عظيمة، وتحقيقها ليس سهلا، ولكنه هو المطلوب، بل هو واجب العصر، وفريضة المرحلة، فقد انتهى زمن الوعي المغشوش، والمعرفة الضحلة، والقراءات الناقصة والمشوشة، كما يجب أن نعطي الأولوية للعقل، فبدونه لا نهضة، ولا حرية، فالعقل هو البداية، ولكن العقل الذي نعنيه هو الذي يتحرر من التبعية بالأسئلة، والنقاش، فلا تقديس لفكر مهما كان صاحب القول عظيما، ولكن التقديس عندنا هو الدليل، والبرهان، والحجة.
فيالكتاب العزيز رحلة عقلية لنبي الله موسى عليه السلام نحو مجمع البحرين، فلما وصل الهدف، والتقى العالم الزاهد الخطر عليه السلام سأله بأدب فقال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا؟، قال له الخطر: قال إنك لن تستطيع معي صبرا.
وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا؟!
هنا في الآيات الثلاثة قضايا خطيرة في بناء العقل العلمي والمبدع والخلاق، وهي أن التعلم يقتضى الصحبة مع العالم والكتاب زمنا طويلا، وليس فقط أن تستمع بعض الأشرطة، أو أن تجلس حينا من الدهر قاعات الكليات، وإنما يجب أَن يعطي الإنسان ذاته العلم كليا، وان يطلب العلم من مظانه ومراجعه ومصادره، أما الأمر الثاني فهو الصبر على التعلم، ودراسة الأفكار، ومناقشة الآراء المتعارضة لأجل الوصول إلى المبتغى، ولهذا نجد الخطر عليه السلام يؤكد هذا المعنى في القصة أكثر من مرة، ذلك لأن غالب الناس يحبون أن يعرفوا المسائل الدقيقة من المعارف والأفكار في أقصر مدة زمنية ممكنة، ومن هنا تحدث الخطر ، وهو الأمر الثالث، وهو أن البشر لا يمكن لهم الصبر مع ما لا يعرفون مراميه وأسراره، ولهذا يكون الحل هو الرفض، وليس البحث من كل الجوانب (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا؟)، ولاحظ قوله تعالى (ما لم تحط به خبرا).
إن العقل المطلوب هو الذي يأتي بجديد، ولا يردد المعروف كالببغاوات، ذلك العقل المتحرر من القيود، ولكنه لا يقفز على الضوابط، فهو ليس عقلا شاردا، ولا عقلا عبثيا، بل هو عقل علمي يحترم الدليل، ويناقش بحجة، ويرد ببينة، ويقبل فكر الآخرين عن علم.
لقد استفاد العقل المبدع من إبداعات الكتاب العزيز، فلاحظ الكلمة التي ترد مع عالم الشهادة بقوة، وهي المفردة (كيف)،
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟ وإلى السماء كيف رفعت؟ وإلى الجبال كيف نصبت؟ وإلى الأرض كيف سطحت؟
إن هذه القراءة المنهجية تصنع العقل المنهجي والباحث عن الحقيقة في الكون، وفي التاريخ، وفي المصير والمبدأ
(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق؟)
(أفلم ينظروا إلى السماء كيف بنيناها وزيناها، وما لها من فروج).
إن القرآن كمرجعية نهائية للناس جميعا ، يعلم أتباعه أن العقيدة الإسلامية تبنى على المعرفة، وأن المسلم الحقيقي ليس إمعة، وأنه لا يمكن بحال من الأحوال احتلال العقل المسلم، فلديه عقل حي، ويقظ، ذلك لأن الكتاب العزيز أخرجه من عالم التبعية إلى عالم الاستقلالية (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى، ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة)
لقد خرج المسلم الواعي بفضل الكتاب العزيز من عالم الأوهام والخرافات، وأخذ موقعه من عالم الحقائق، فهو يطالب دوما الدليل: (نبؤونى بعلم إن كُنتُم صادقين)، ويطلب باستمرار الدليل النقلي والعقلي معا (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب مبين).
إن العقل المسلم المبدع لا يرفض القديم لقدمه، ولا يقبل الجديد لجدته، ولكنه يقبل ويرفض بمنهجية صارمة، ولهذا يبدع ويأتي من خلال الدراسات المضنية القديمة والجديدة الأفكار المبدعة والجديدة، فهو لا يخاف من الجديد، ولكنه لا ينبهر به، ولا يحقر القديم، ولكنه لا يقدس، ويحاول أن يستفيد من الماضي، ويعتبر به، ويعيش في لحظته متفاعلا مع قضايا الزمن، ويستعد للمستقبل ومفاجآته، وبهذا فهو يتجدد ويبدع، لأنه يقرأ دوما، ولا يتوقف أبدا في محطة معينة.
لاحظت شبابا من المسلمين تأثروا بما يسمى بفكرة التنمية البشرية، وصارت لحظة من اللحظات موضة، ولكنى لاحظت من البداية أنها تحمل في طياتها خرافات هائلة، وقد رأينا قريبا كيف تبرأ الأستاذ طارق السويدان هذه الفكرة؟
لقد رأيت كذلك شبابا من المسلمين يظهرون في وسائل الإعلام، ولكنهم يعطون الأولوية للشكل، ولكن على حساب المحتوى الفكري، فهم يقرأون كتابا أو كتابين حول مسألة خطيرة ومهمة، ثم يأتون إلى الإعلام ليخاطبوا الجمهور، فهذا سقوط أخلاقي قبل أن يكون سقوطا علميا.
إن المبدع لا يصنع بالدورات، فهذا نوع من الخرافات التي صنعتها المدرسة الدينية في الولايات المتحدة، ثم حملها رجال من المسلمين إلى العالم الإسلامي، والسؤال هو، أين المبدعون الذين تخرجوا من الدورات التي وصلت الآلاف في العالم الإسلامي؟
الإبداع حالة نفسية، وعقلية تأتي من المعاناة الذاتية، وتتشكل مع الزمن، وتختمر في الداخل، ولكنها تنتظر لحظة الانفجار، وهي مرتبطة بإرادة الفرد، ولكن المجتمع من حوله يساعدونه فيذلك .
لن تصنع منظمة معينة الإبداع، ولا تنتج دولة معينة حالات الإبداع، ولكن المبدع يستفيد من الظروف المحيطة به، فهناك مناطق معينة تساعد على الإبداع، وهي المناطق التي تلتقي فيها الحضارات، فالإنسان الذي يعيش في ثقافة واحدة، وفي تجربة واحدة، لا يبدع، كما أن الإنسان الذي يسافر كثيرا، ويلتقي مع المبدعين كثيرا، لا يكون مبدعا بهذا فقط، فلا مناص من إرادة داخلية، ومن وجود القلق المنهجي في الداخل، وهو الذي يسميه الأستاذ معتز الخطيب (الشك اليقيني).
إن الشعوب في منطقة القرن الأفريقي تنتظر من الجيل الصاعد فكرا إسلاميا مبدعا، واجتهادا جديدا وخلاقا، وطرحا متميزا، ولهذا، يكون من الخير للجيل الجديد أن يقرأ كثيرا، وخاصة أن يتعلم القراءة الجماعية، وَمِمَّا أسعدني كثيرا بأنه في جيبوتي مجموعة مثقفة أسست نادي القرّاء مرة سابقة، وكان لهم برنامجا جيدا في ذلك، وربما ما زالوا كما كانوا، كما أنني وجدت في برعو جيلا واعيا، له تجربة فريدة في هذا الباب، وفي مدينة بورما لاحظت كذلك جيلا من الشباب المثقف لديه معرفة وقراءة، وأعجبني بأن الشيخ ألمس الحاج بدأ في مدينة هرچيسا العاصمة دروسا حول كتاب (المقدمة) لابن خلدون، وتلك خطوة متقدمة، ولدينا قراءات سياسية لكتاب (السياسة الشرعية) لابن تيمية، فهذه المحاولات الجادة، سوف تتحول إلى مشاريع ثقافية من شأنها بناء العقل المبدع، ومن هنا تكون البداية للإقلاع الحضاري.