من معتقدات النصارى ما يسمونه برحلة العائلة المقدسة إلى مصر، والتي خلاصتها أن المسيح عليه السلام قد جيء به إلى مصر حين كان طفلاً صغيراً، جاءت به والدته مريم رضي الله عنها ويوسف النجار ، من بيتَ لحمَ إلى مصر ، وذلك هرباً من الحاكم الروماني هيرودس الذي كان يريد قتله . وفي تفاصيل تلك الرحلة يذكرون الأماكن الكثيرة التي مرت بها العائلة في مصر ،والتي أقيمت فيها فيما بعد الكنائس والأديرة: بدءاً من رفح بشبه جزيرة سيناء وانتهاءً إلى الدير المحرَّق شمالي أسيوط، ومروراً في طريق عودتهم، بمنطقة دُرنكة على جبل أسيوط الغربي، والتي بها الآن واحد من أضخم الأديرة وأمنعها، والذي يقيمون به مولداً سنوياً للعذراء كما يزعمون .
وإذا كان أهل الكتاب يعتقدون بصحة تلك الوقائع بحسب ما يجدونه في بعض كتبهم، فإن لزاماً علينا أن نشير إلى خطأ ما يعتقده بعض المسلمين -جهلاً أو مجاملةً- من أن تلك الرحلة قد وقعت بالفعل ،حتى رأينا بعض المنتسبين للعلم والدعوة من المشايخ الرسميين وغيرهم، يتحدثون عن تلك الرحلة على أنها من المسلَّمات التاريخية، ويعتبرونها مصدرَ فخر لمصر والمصريين.
وذلك أننا مع حبنا -نحن المسلمين- لعبد الله ورسوله عيسى بن مريم وتصديقنا به، إلا أنه لا يجوز لنا أن نَجزِم بشيء فيما يتعلق به،
ولا بإخوانه من الأنبياء والمرسلين، إلا إذا جاءنا في ذلك نص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والذي نعلمه يقيناً أنه ليس هناك أي نص في القرآن الكريم أو السنة الصحيحة يتحدث عن تلك الرحلة.
وكون القوم يعتقدون بصحة وقوع تلك الرحلة ،وأنها مذكورة في بعض كتبهم، فهذا أمر يخصهم وحدَهم.
أما نحن المسلمين فليس لنا أن نُسلِّم بقولهم، ولا أن نسايرهم فيما يقولون، وذلك كما ذكرنا لعدم وجود نص عندنا يثبت ذلك، وبخاصة أن إثبات تلك الرحلة قد أفضى إلى إقامتهم المزارات في الأماكن التي يعتقدون نزول المسيح عليه السلام فيها، ثم ما يتبع ذلك من إقامة الموالد والاحتفالات المخالفة لعقيدتنا في تلك الأماكن.
تلك الموالد التي يشارك فيها للأسف كثير من أبناء المسلمين وبناتهم ،مع ما يحدث فيها من الفحش والمنكرات الظاهرة .
إن غاية ما في أخبارهم التي يروونها بهذا الخصوص أن تكون مثل روايات بني إسرائيل ،التي لم يأتِ في شرعنا ما يثبت صدقها ولا كذبها ، والتي يجوز لنا روايتها ،ولكنا لا نُصدِّقُها ولا نُكذِّبُها. وقد بين علماؤنا كما ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في مقدمة تفسيره ( ص: 4) أن المرويات من الإسرائيليات على ثلاثة أقسام :
«أحدها: ماعلمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل ،فلا نؤمن به ،ولا نكذبه ويجوز حكايته …».
هذا وقد نقل العلامة الشيخ أحمد شاكر في مقدمته لعمدة التفسير ( ص: 13) كلام ابن كثير السابق، ثم علَّق عليه مبيناً أن إباحة التحدث عنهم فيما ليس عندنا دليل على صدقه لا يعني أن نجعله قولاً أو روايةً في تفسير آيات القرآن الحكيم، أو في تعيين ما لم يعين فيها، أو في تفصيل ما أجمل فيها؛ وذلك لأن فى إثبات مثل ذلك بجوار كلام الله، ما يوهم أن هذا الذي لا نعرف صدقه ولا كذبه مُبيِّن لمعنى قول الله سبحانه، ومُفصِّل لما أجمل فيه!
وحاشا لله ولكتابه من ذلك.
وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ أذن بالتحدث عنهم أمرنا ألا نصدقهم ولا نكذبهم، فأي تصديق لرواياتهم وأقاويلهم أقوى من أن نقرنها بكتاب الله ونضعها منه موضع التفسير أو البيان ؟!اللهم غفراً».
فإذا كنا لا نقبل تلك الروايات في تعيين ما لم يُعيَّن، أو في تفصيلٍ لمجمل ،فكيف بمن يعتمد عليها اعتماداً كلياً ويعتبرها مصدراً موثوقاً به .
هذا ومما ينبغي ذكره أن تلك الحادثة لم يذكرها من أصحاب الأناجيل المعتمدة عند الكنائس إلا إنجيل «متى»، فقد ذكر أن ملاك الرب قد ظهر ليوسف النجار في حلم قائلاً: «قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه». وفيه أنهم ظلوا بمصر إلى أن مات هيرودس فظهر ملاك الرب في حلم ليوسف قائلاً: «قم وخذ الصبي وأمَّه ،واذهب إلى أرض إسرائيل» [ انجيل متى 2/ 13- 20]. أما مرقس ولوقا ويوحنا فلم يَرِد في أناجيلهم ذكرٌ لتلك الرحلة .
كما يلاحظ أن هذه الإشارة الواردة في إنجيل متى ليس فيها تفصيل لمسار تلك الرحلة ، وإنما هم يعتمدون في إثبات تلك التفاصيل على حلم رآه البطريرك «ثيوفيلس» في أواخر القرن الرابع ،بأن السيدة مريم زارته في المنام ،وحكت له الرحلة المزعومة. فقام ودوَّنها في مذكراته الشخصية. كما نقلت ذلك الدكتورة زينب عبد العزيز -وهي أستاذة للحضارة الفرنسية ،ولها كتابات متميزة في الشأن الكنسي والرد على الشبهات التي يثيرها بعض المتعصبين ضد الإسلام وأهله -وذلك في مقال لها تحت عنوان : «أكذوبة زيارة العائلة المقدسة».
ومن أجل ذلك وغيره فقد كذَّب تلك الروايةَ كثيرٌ من الباحثين المسيحيين ، كما نقلتْ الدكتورة زينب في المقال المشار إليه ،منهم : ميشيل كوكيه، أحد الباحثين الفرنسيين والشماس الكاثوليكي السابق كما في كتابه: «حياة يسوع بلا خداع»، حيث ذكر أن المؤرخين أقروا ” أن قصة هروب العائلة المقدسة إلى مصر، مثلما يحكها إنجيل متّى لا يمكن تصديقها. إذ إن عبور صحراء شديدةِ الحر نهاراً قارصةِ البرد ليلاً، طولها خمسمائة كيلومترا، في منطقة غير آمنة، بها اللصوص والحيوانات المتوحشة، على ظهر حمار لا يمكنه أن يحمل على ظهره المياه والطعام اللازم لمثل هذه الرحلة، هي مغامرة من المحال تحقيقها بالنسبة لزوج وزوجة وطفل رضيع…. ) إلخ . ومنهم الباحثة ألكسندرا دورّ في بحث لها حول “طفولة يسوع” وغيرهما.
كما أني وجدت في كتاب ( قصص الأنبياء) للعالم الأزهري الشيخ عبد الوهاب النجار ( ص: 386 ) إشارةً إلى عدم صحة تلك الحكاية ، وقد أحال رحمه الله إلى كتابٍ بعنوان: «الفارق بين المخلوق والخالق» ذاكراً أن فيه تزييفاً لتلك الحكاية.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم.
إضافة مهمة:
بعد نشر ما سبق وجدتُ بعض المعلقين يشير إلى ما ورد في بعض كتب التفسير في تفسير قوله تعالى:
(وجعلنا ابن مريم وأمه آيةً وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) [المؤمنون: 50] من أن هناك من قال إن تلك الربوة كانت بمصر.
والحقيقة أن من قرأ المقال جيداً سيجد الرد على هذا، فإن أقوال المفسرين ليست دليلاً شرعياً يبنى عليه إثبات خبر من أخبار الأنبياء، ما لم يسندها نص صريح من القرآن الكريم أو كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم .
كما أن الظاهر أن هذا القول متلقى من كلام أهل الكتاب، ولذا تجده معزواً لبعض مُسلمة أهل الكتاب كوهب بن منبه رحمه الله .وقد بينا في المقال الموقف من مروياتهم نقلاً عن ابن كثير وأحمد شاكر رحمهما الله.
ولذا قال ابن كثير في تفسير تلك الآية بعد إشارته لكلام وهب بن منبه في أن الربوة كانت بمصر: (وهو بعيد جداً) .ثم لو افترضنا جدلاً صحة أن الربوة بمصر فأين الدليل على المسار الطويل الذي يزعمونه؟
د. عبد الآخر حماد
21/ 6/ 1444هـ-14/ 1/ 2023م
- د. عبد الآخر حماد يكتب: هل زارَ عيسى عليه السلام مصر؟ - السبت _21 _يناير _2023AH 21-1-2023AD
- د. عبد الآخر حماد يكتب: من صور النفاق في شعرنا المعاصر - الأثنين _26 _ديسمبر _2022AH 26-12-2022AD
- د. عبد الآخر حماد يكتب: حكم قصر الصلاة لمن سافر ومعه زوجته - الخميس _15 _ديسمبر _2022AH 15-12-2022AD