حينما كتبت مقالاً أبين فيه أن لا يصح الجزم بصدق الحكاية التي تقول بأن المسيح عليه السلام قد جئ به إلى مصر وهو طفل رضيع،
وذلك اعتماداً على أننا لا نجد في كتاب ربنا ولا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم دليلاً يثبت وقوع تلك الرحلة،
انبري لي البعض –ممن تدل أسماؤهم للأسف على أنهم مسلمون- مُنكرين قولي هذا، بدعوى أن القرآن الكريم ليس كتابَ تاريخ،
وإنما هو كتاب دين وهداية، وعليه فلا يعني عدم ورود واقعةٍ ما في القرآن أنها لم تقع .
والعجيب أن هؤلاء الذين يقولون بهذا ليس لهم من دليلٍ على وقوع تلك الحادثة إلا ما ذُكر بشأنها في إنجيل متى ، وبعض المرويات المتفرعة عنه .
فيا قومنا:
كيف تُنكرون أن يكون القرآن مصدراً للتاريخ، ثم تعتمدون على رواية ذُكرِت في أحد الأناجيل، التي هي بنص القرآن الكريم قد نالها التحريف والتبديل؟.
فإنْ كان لكم من دليل من مصدرٍ تاريخي مستقل على وقوع تلك الحادثة فأبرزوه لنا لننظر فيه.
وقد ذكرت في المقال السابق أنه قد كذَّب تلك الروايةَ كثيرٌ من الباحثين المسيحيين، وقالوا إنها قصة لا يمكن تصديقها.
كما علَّق على مقالي بعض الأساتذة الكرام مبينين أنه من الناحية العقلية لا يمكن قبول ما ورد في كتب القوم بشأن تلك الواقعة وتفاصيلها .
ثم إن أخبار الأنبياء والمرسلين، وما يتعلق بتاريخهم وأحوالهم ليست كأخبار غيرهم من الناس .فنحن هنا لا نتكلم عن الإسكندر وفتوحاته ،
ولا عن نابليون ومغامراته، حتى يقال لنا إنه لا ضرورة لذكر ذلك في القرآن الكريم .
وإنما نحن نتكلم عن رجالٍ بعثهم الله لهداية الناس، فالحديث عنهم وعن أخبارهم داخل في قضايا الاعتقاد التي لا بد من وجود دليل صحيح عليها .
وأنا قد كنت واضحاً في قولي بأن أهل الكتاب أحرار فيما يعتقدونه بخصوص هذه الرحلة وغيرها،
ولكننا نحن المسلمين لا يجوز لنا أن نوافقهم في ذلك بغير دليل أو برهان .
ثم إن من أهم ما يحملنا على إثارة مثل هذه القضايا أن الأمر لم يعد مقصوراً على عقيدة يعتقدها القوم في خاصة أنفسهم ،
وإنما قد صارت له أبعاد عملية خطيرة، فهم يستغلون ما يسمونه بمسار رحلة العائلة المقدسة لإنشاء الكنائس والأديرة والمزارات،
التي يقيمون فيها الموالد والاحتفالات.
ثم هم يتوسعون في ذلك يوماً بعد يوم، ويغتصبون أراضي ليست من حقهم .
وعلى سبيل المثال
فإن مَنْ يَمُر قرب منطقة دير درنكة جنوبي أسيوط -والتي يقولون إنها آخر نقطة وصل إليها ركب السيد المسيح- سيجد أنه قد شهد في السنوات الأخيرة توسعات كثيرة،
بل صرنا كلما مررنا به نجد أنهم قد استولوا على أراضٍ جديدة من أملاك الدولة ،يضمونها للدير وملحقاته،
بحيث تضاعفت مساحته الآن عدة مرات عما كانت عليه من قبل .
وأخيراً فإننا -نحن المسلمين- نعتقد أن القرآن الكريم ليس كتاب تاريخ،
بمعنى أنه لم يكن من غايته استقصاء حوادث التاريخ وبيان تفاصيلها،
ولكنه قد حوى جملةً من وقائع التاريخ منها ما يتعلق بتاريخ الأنبياء ،ومنها ما يتعلق بغير ذلك.
ونحن نعتقد اعتقاداً جازماً أن تلك الشذرات التاريخية المذكورة في القرآن الكريم هي التاريخ الصحيح الذي لا يمكن التشكيك في وقوعه .
بل إن القرآن الكريم هو الوثيقة التاريخية الوحيدة التي لا تقبل نقاشاً ولا جدالاً ، لأنه كلام رب العالمين وأحكم الحاكمين.
فكل ما جاء فيه حق وصدق؛ كما قال تعالى:
(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن).
[يوسف : 3]
وقال: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ).
[الأنعام : 115].
إلى غير ذلك من الأدلة .
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
- د. عبد الآخر حماد يكتب: الغِذاء والغَداء والفُطور.. مدارسة لُغوية - السبت _18 _مارس _2023AH 18-3-2023AD
- د. عبد الآخر حماد يكتب: معاونو الاحتلال.. من أبي رِغال إلى عبد العال - الجمعة _10 _مارس _2023AH 10-3-2023AD
- د. عبد الآخر حماد يكتب: خرافة التوحيد الأخناتوني - الأحد _5 _مارس _2023AH 5-3-2023AD