عندما خرج الأمريكان من أفغانستان قبل عامين أو أكثر،أخرجوا معهم أو بعدهم عدداً كبيراً ممن سُمُّوا بـ«المتعاونين»، أي الأفغان الذين كانوا يعاونون تلك القوات الأجنبية، وذلك خوفاً عليهم من انتقام (طالبان) كما تزعم أمريكا وحلفاؤها.
والحقيقة أن التسمية الصحيحة لأولئك المتعاونين هي أنهم أناس خائنون لدينهم ولبلدهم، عملاء للمحتل الغاصب، مُوالون لأعداء الله عز وجل.
والذي تدل عليه أحداث التاريخ، أن كل عدوٍ غازٍ مهما بلغت قوته العسكرية، لا يستغني عن تلك الطائفة الخائنة التي تبيع دينها ووطنها بعَرَضٍ من الدنيا قليل.
وقد قرأنا وسمعنا عمن كانوا يسمون في فترة حرب التحرير الجزائرية بين عامي (1954-1962م) بـ«الحركيين»، وهم المواطنون الجزائريون الذين كانوا يعملون مع الاستعمار الفرنسي، حتى قاتل بعضُهم أهليهم ومواطنيهم في صفوف المستعمر.
ولا زلنا نسمع عما يحدث في فلسطين المحتلة من خيانات أولئك «المتعاونين» لأبناء دينهم ووطنهم..
والتاريخ يشهد أيضاً بأن أولئك العملاء مهما نالوا في ظل ذلك المحتل الغازي من الامتيازات، فإن نهايتهم في غالب الأحوال تكون في غاية السوء.
ويكفي ما يُلاحقون به من اللعنات التي يصبها عليهم أهل بلدهم، ومَن أُضيروا بسببهم.
«أبو رِغال» و«عبد العال»:
هما مثالان لتلك الخيانة، ورمزان من رموزها. أولهما من تاريخنا القديم، وثانيهما من تاريخنا الحديث.
والعجيب أننا لا نعرف عن الأول إلا أنَّ كنيتَه أبو رغال، ولا عن الثاني إلا أن اسمه عبد العال، هكذا دون ذكر أبٍ ولا جدٍ ولا نسب.
وكأنما كان ذلك مقصوداً، من باب التحقير لهما، وبيان جهالتهما وَضَعة شأنِهما.
1- أما أبو رِغال
فهو دليلُ أبرهةَ الأشرم، الذي سار معه ليدله على طريق مكة، وذلك حين خرج أبرهة بجيشه قاصداً الكعبة ليهدمها.
وقد كان من خبر أبرهة، كما في سيرة ابن هشام (1/ 47) أنه مرَّ وهو في طريقه إلى مكة بالطائف، فخرج له كبراء ثقيف مذعنين له بالولاء والطاعة.
ثم بعثوا معه أبا رِغال يدله على الطريق.
وسار أبرهة ومعه أبو رِغال حتى أنزله المُغَمَّس -وهو موضع بالقرب من مكة-، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك، فرجمت قبرَه العربُ، مقتاً له، وتبشيعاً لفعله.
ومن أجل ذلك قال جرير وهو يهجو الفرذدق ( كما في معجم البلدان : 3/ 54 ) :
إذا مات الفرذدقُ فارجموه *** كما ترمون قبرَ أبي رِغالِ.
2- وأما عبد العال
فقد كان من أعوان الفرنسيين أيام حملتهم على مصر ( 1798-1801م ).
وقد كان من شأنه كما يذكر الجبرتي في كتابه (مظهر التقديس صـ: 196) أنه كان من أسافل الناس العامة،
وكان أجيراً لبعض نصارى الشوام بخان الحمزاوي، ولكنه تقرَّب من بعض من كانوا يتولون وظيفة أغات مستحفظان (أي قائد فرقة حراسة القلاع والمدن).
فكان يعمل معاوناً له. ثم لما مات ذلك الأغا، تُرك لعبد العال ذلك المنصب. فكان ذلك كما يقول الجبرتي: (من جملة النوادر والعبر).
أي لكونِ عبد العال هذا لا يصلح لذلك المنصب؛ لضَعَته وقلة شأنه.
وقد بالغ عبد العال هذا في خدمة الفرنسيين، وقتل الناس إرضاءً لهم،وتثبيتاً لحكمهم.
وكثيراً ما كان يقبض على بعض الناس، ويلزمهم بدفع أموال بغير سبب.
فإذا سئل عن ذلك قال: (لم أفعله من قِبَلِ نفسي، بل من قبل الفرنسيس) كما ذكر الجبرتي في حوادث ذي الحجة 1215هـ.
ولما وُقِّعت اتفاقيةُ الجلاء بين الفرنسيين والإنجليز والعثمانيين، والتي بموجبها خرج الفرنسيون من مصر،
كان من ضمن شروطها بحسب ما أورده الجبرتي أن من أراد من أهل مصر المحروسة
(أن يسافر مع الفرنساوية يكون مطلق الإرادة، وبعد سفره كامل ما يبقى عياله ومصالحه لم أحد يعارضهم).
وبناءً على هذا الشرط، فقد خرج مع الفرنسيين عدد كبير من أولئك الذين ساندوهم وعاونهم. وبالطبع كان عبد العال من أولئك الخارجين.
يقول الجبرتي في حوادث صفر 1216هـ:
(وفي يوم الأربعاء تاسع عشره خرج المسافرون مع الفرنساوية إلى الروضة والجيزة بمتاعهم وحريمهم،
وهم جماعة كثيرة من القبط وتجار الافرنج والمترجمين وبعض المسلمين ممن تداخل معهم في المظالم،
وخشي على نفسه، ومن ترأس في أيامهم من نصارى الشوام والأروام…
وعبد العال الأغا أيضاً طلَّق زوجته، وصنع له برنيطة وطرزها بالمجيش -لعله يريد أنه طرزها بعلامة الجيش الفرنسي-
وخرج إلى الروضة بعد ما باع متاعه وفراشه، وما ثقل عليه حمله من طقم وسلاح وغيره.
فكان يرسل خلف الذي باعه شيئاً من ذلك ويلزمه بإحضار ثمنه قهراً.
ولم يصحب منه إلا ما خف حمل وغلا ثمنه) [مظهر التقديس ص: 243].
بعثة علمية مصرية إلى فرنسا
3- وفي سنة 1241هـ-1826م، وبعد خروج الفرنسيين من مصر بربع قرن،
وصلت إلى ميناء مارسيليا بفرنسا أول بعثة علمية أرسلها محمد علي إلى أوربا بعد توليه حكم مصر.
وكان من أعضاء تلك البعثة رفاعة رافع الطهطاوي، الذي كتب عن رحلته في تلك البعثة كتابه المشهور: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز».
ومما ذكر في كتابه هذا (صـ: 52) أنهم لما وصلوا إلى مرسيليا وجدوا كثيراً من نصارى مصر والشام الذين خرجوا مع الفرنساوية،
حين خروجهم من مصر، وهم جميعًا يلبسون لبس الفرنسيس.
وذكر أنه يندر أن تجد أحداً من المسلمين الذين خرجوا مع الفرنسيس؛
(فإن منهم من مات، ومنهم من تنصر، والعياذ بالله، خصوصًا المماليك، الجورجية والجركسية، والنساء اللواتي أخذهن الفرنسيس صغار السن).
ثم قال الطهطاوي:
(وممن تنصَّر إنسان يقال له عبد العال، ويقال إنه كان ولاه الفرنسيس بمصر (أغاة انكشارية) في أيامهم، فلما سافروا تبعهم، وبقي على إسلامه نحو خمس عشرة سنة، ثم بعد ذلك تنصر، والعياذ بالله، بسبب الزواج بنصرانية، ثم مات بعد قليل).
وواضح من هذا أن عبد العال قد مات على النصرانية، وإنْ كان الطهطاوي قد عاد بعد ذلك فذكر أنه يُقال: إن عبد العال هذا سُمع عند موته يقول: أجرني يا رسول الله!،
ويقول الطهطاوي:
(ولعله ختم له بخير، وعاد إلى الإسلام). لكن ليس من دليلٍ قطعي على إسلامه، خاصةً وأن الطهطاوي نفسه قد قال عنه في نفس الموضع من كتابه المذكور: (ولقد رأيت له ولدين وبنتاً، أتوا في مصر، وهم على دين النصرانية؛ أحدهما معلم الآن في مدرسة أبي زعبل).
هذا والعلم عند الله تعالى.
- د. عبد الآخر حماد يكتب: الغِذاء والغَداء والفُطور.. مدارسة لُغوية - السبت _18 _مارس _2023AH 18-3-2023AD
- د. عبد الآخر حماد يكتب: معاونو الاحتلال.. من أبي رِغال إلى عبد العال - الجمعة _10 _مارس _2023AH 10-3-2023AD
- د. عبد الآخر حماد يكتب: خرافة التوحيد الأخناتوني - الأحد _5 _مارس _2023AH 5-3-2023AD