شاهدت مقطعاً مصوراً على الصفحة الرسمية لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، يتحدث فيه أستاذ فاضل عن «الفرق بين الغَداء والغِذاء»،
وما يحدث من خلطِ كثيرٍ من الناس بينهما، حيث ذكر أن الصواب أن الغِذاء هو مطلق ما يؤكل، وأما الغَداء فهو وجبة منتصف النهار،
وهي إحدى الوجبات الثلاث المعروفة وهي الإفطار والغداء والعشاء. كذا جاء في المقطع المشار إليه.
وأقول: أما ما ذكره من تعريف الغِذاء بأنه مطلق ما يؤكل فلا إشكال فيه، وهو موافق لما جاء في المعاجم العربية من أن الغِذاء هو ما يغتذى به.
وأما ما ذكره بخصوص تعريف الغَداء بأنه وجبة منتصف النهار، فإن الموجود في معاجم اللغة أن الغَداء هو طعام الغُدوة كما في القاموس (4/ 369)؛
والغُدوة والغَداة: أول النهار، وهي ضد العشي الذي هو آخر النهار،
قال تعالى:
(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) [الكهف: 28].
فالطعام الذي يؤكل في الصباح هو الغَداء،ويقابله العَشاء وهو ما يؤكل وقت العشي،
قال في الصحاح: (والغَداء هو الطعام بعينه وهو ضد العَشاء) وفي القاموس: (تغدّى: أكل أول النهار).
وقد يطلق اسم الغداء على أكلة السُّحُور، لقرب وقتها من الصباح، فالسُّحُور بالنسبة للصائم هو بمنزلة الغَدَاء للمفطر،
وفي كتاب الصوم من سنن أبي داوود: (باب من سمّى السُّحُور الغَدَاء)، وأورد تحته حديث العرباض بن سارية (2344) قال:
(دعاني رسول الله ﷺ إلى السَّحورِ في رمضانَ، فقال: هَلُمَّ إلى الغَداءِ المبارَكِ).
وقد ذكر الدكتور تقي الدين الهلالي المغربي في كتابه «تقويم اللسانين» (ص: 74):
أن من الخطأ تسمية الناس اليوم للطعام الذي يؤكل بعد الظهر غَداءً.
كما ذكر أن العرب لم يكونوا يعرفون نظام الأكلات الثلاث المعروف الآن؛
إذ لم يكن عندهم طعام خاص يؤكل وقت الظهيرة،
وليس في لغتهم اسم لطعام يؤكل في ذلك الوقت،كما أنه ليس في لغتهم اسم لطعام يؤكل في الليل،
وإنما كان عندهم غَداء وعَشاء فقط،وفيما سوى هذين الطعامين لا يتقيد الآكل بوقت معتاد، وإنما متى جاع الإنسان أكل.
كذا قال رحمه الله، ولكني وقفت في كتب اللغة على اسمٍ لما يؤكل من الطعام وقت الظهيرة ألا وهو: (الكَرْزَمَة)،
قال الفيروزآبادي في القاموس (4/171): (والكَرْزَمَة أكل نصف النهار)، وهناك تسمية أخرى هي: الهَجُوري، جاءت أيضاً في القاموس المحيط (2/159)،
وهي مشتقة من الهجير أو الهاجرة أي وقت الظهيرة.
وهاتان الكلمتان من مهجور اللغة لا يكاد المرء يعثر لهما على استعمال، ولعل السبب في ذلك ما سلفت الإشارة إليه من أن الطعام الذي كان مألوفاً عند العرب هو طعام الغداء والعشاء على الوجه الذي سبق بيانه.
ومن طريف ما وقفت عليه في هذا الخصوص ما نشرته مجلة الهلال في عدد ديسمبر سنة 1956م من أن دسوقي أباظة باشا -وهو أديب وسياسي مصري تولى الوزارة عدة مرات إبان العهد الملكي -كان قد دعا بعض أعضاء مجمع اللغة العربية إلى تناول الطعام في بيته فلم يكتب لهم في رقاع الدعوة: «أدعوكم لطعام الغداء»، بل كتب لهم: «أرجو الحضور لتناول الكرزمة»، وكانت هذه الكلمة هي فاكهة المائدة في ذلك اليوم،
وقد قال لمدعويه:
«لقد هُديتُ إلى كلمة الكرزمة اسماً لطعام نصف النهار، وخشيت أن أكتب كلمة الغداء فتفهموا-وأنتم لُغويون- أني أدعوكم إلى طعام الغدوة فأفاجأ بكم حاضرين منذ الصباح».
بقيت كلمة أخيرة حول طعام الفُطُور أو الإفطار الذي جاء في المقطع المشار إليه أنه إحدى الوجبات الثلاث المعروفة، والذي يطلقه الناس الآن على أكلة أول النهار،
فأقول: إن الموجود في معاجم اللغة أن الفُطُور هو أكلة الصائم عند فطره، ففي القاموس: (فَطَر الصائمُ: أكل وشرب كأفطر).
وفي مختار الصحاح في مادة فَطَر:
(أفطر الصائم، والاسم الفِطْر.. والفَطُور بالفتح ما يُفطر عليه ). وهذا هو المعروف في كتب الفقه ودواوبن السنة،ومن ذلك حديث أنسٍ رضي الله عنه قال:
(كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَعَلَى تَمَرَاتٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ)
[أخرجه أبو داوود (2356)].
وقد وجدت في معجم معاصر هو «المنجد» (ص: 588) أن استعمال الفُطُور بمعنى ما يؤكل أوائل النهار هو استعمال عامي وليس فصيحاً،
وفيه كذلك (ص: 546) التنبيه على أن تسمية طعام الظهيرة بالغداء ليس فصيحاً، وإنما هو من استعمال المولَّدين.
وهذا الذي جاء بالمنجد هو الموافق لما نقلناه عن أئمة اللغة من قبل.
استدراك: بعد كتابة ما سبق وجدت في المعجم الوسيط الذي أصدره مجمع اللغة العربية،
ما يفيد جواز إطلاقَ تسمية الفُطُور والإفطار على أكلة الصباح ففيه: (أفطر فلان: تناول طعام الصباح).
وكذا فيه إطلاق الغداء على أكلة الظهيرة.وكلا الأمرين مخالف للمنصوص عليه في كتب أئمة اللغة كما أسلفنا.
وقد قلت في نفسي: لعل المجمع أقر هذين الاستعمالين ضمن ما يجيزه كلَّ حين من الألفاظ والمصطلحات الحديثة.
وبناءً على ذلك فكَّرْتُ في طي كلامي السابق وعدم نشره،باعتبار أن المسألة قابلةٌ للنظر والخلاف.
ولكني رأيت أن من الأفضل نشره ووضعه بين يدي أهل العلم للنظر فيه، وبخاصة أني لا زلت أرى أن الصحيح في ذلك هو الالتزام بما ذكره أئمة اللغة من قديم، وهو أن الغَداء هو طعام أول النهار فقط، وأن الإفطار أو الفطور خاص بما يأكله الصائم عند فطره.
والله الموفِق والمُستعان.
- د. عبد الآخر حماد يكتب: الغِذاء والغَداء والفُطور.. مدارسة لُغوية - السبت _18 _مارس _2023AH 18-3-2023AD
- د. عبد الآخر حماد يكتب: معاونو الاحتلال.. من أبي رِغال إلى عبد العال - الجمعة _10 _مارس _2023AH 10-3-2023AD
- د. عبد الآخر حماد يكتب: خرافة التوحيد الأخناتوني - الأحد _5 _مارس _2023AH 5-3-2023AD