يقولون إن الألفاظ قوالب للمعاني، أي أن المعاني توجد أولاً ثم يصاغ لها ما يناسبها من الألفاظ والتراكيب.
ولا شك أن لثقافة كل قوم ومعتقداتهم تأثيراً قوياً على لغتهم وما يستعملونه من ألفاظ ومصطلحات، ونحن نعلم أنه قد كان للقرآن الكريم أثره الواضح على لغة العرب من حيث التغير في دلالات الألفاظ واتساع معانيها أو ضيقها، أو استحداث مصطلحات جديدة لم تكن معروفة وإن كانت أصول ألفاظها معروفة من قبل.
كما أننا نعلم أن كثيراً من البلاد الإسلامية قد ظلت محتفظة بلغاتها المحلية بعد دخول الإسلام فيها فلم يتعرب أهلها، ومع ذلك فإنه يلاحظ أن كثيراً من الألفاظ العربية قد دخلت في لغات تلك البلدان،وبخاصة ما كان منها متصلاً بالمصطلحات الشرعية كالصوم والحج والعمرة والزكاة وغير ذلك.
بل إنني وجدت في بعض البلاد الإسلامية التي زرتها أن كثيراً من الألفاظ التي يستعملونها في حياتهم العادية قد تأثرت تأثراً كبيراً بالمعاني الشرعية،ومثال ذلك أن المرأة في اللغة الأوردية تسمى (عورت).
وفي مناطق البشتون في باكستان وأفغانستان كنا إذا ذهبنا إلى مستشفى -أو غيره من الأماكن التي يحتاج الإنسان فيها إلى الانتظار بعض الوقت- كنا نجد الأماكن المخصصة لانتظار الرجال قد كتب عليها (مردان) أي رجال، وأما أماكن انتظار النساء فمكتوب عليها (مستورات)، فكأنهم اشتقوا للنساء اسماً مما يجب أن يكون عليه حالهن من التستر والاحتجاب عن الرجال.
وأعجب من ذلك ما أخبرني به -حين إقامتي بألمانيا- أخٌ مسلم من صربيا كان قد نشأ نصرانياً،ثم أسلم بعدما كبر،من أنه منذ صغره كان يسمع أمَّه تقول إذا أعجبها أمر: (ما شا الله، ما شا الله).
تقول هذا وقد كانت -ولا تزال – نصرانية. وكان الأخ قبل إسلامه لا يعرف أصل تلك الكلمات فلما أسلم عرف أنها كلمات عربية (ما شاء الله) وعرف مدلولها الشرعي، وتعجب من وجودها في لغة قومه، وهم غير مسلمين.
فقلت له: لعل ذلك من آثار الحكم العثماني لبلادكم فإن المعروف أن صربيا وكُلَّ دول البلقان كانت جزءاً من الدولة العثمانية لعدة قرون.
فلما أخبر أمَّه بالأصل العربي لتلك الكلمة ومعناها امتنعت نهائياً عن التكلم بها بعد ذلك!
وإذا كان وجود بعض الألفاظ الدالة على معانٍ إسلامية أمراً متوقعاً في لغات بلاد تدين بالإسلام وتحمل عقيدته، أو بلاد خضعت لحكم الإسلام زمناً،فإن من أعجب الأمور التي لاحظتها وجود بعض الألفاظ في اللغات الأوربية تشير فيما أرى إلى معانٍ شرعية صحيحة، رغم أن تلك البلدان لا تدين بالإسلام ولا تعرف أصوله، وإني أسوق للتدليل على ذلك مثالين مما عرفته خلال إقامتي في تلك البلاد.
1 – أما المثال الأول فهو أننا نعلم أن الأصل في معرفة الشهور والسنين هو التقويم القمري كما قال الله تعالى:
(هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب)
[يونس: 5 ]،
فحركة القمر في منازله هي التي يعرف بها عدد السنين والحساب، وليس ذلك خاصاً بالأمة المحمدية بل هي سنة الله الكونية والشرعية منذ خلق السموات والأرض كما قال تعالى:
(إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم)
[التوبة: 36]،
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان). [أخرجه البخاري (3197) و(5550) ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة]
أما الشمس فيعرف بها فقط ابتداء اليوم وانتهاؤه، ومن ثم يعرف بها حساب الأسابيع،فكأن الله تعالى قسم معرفة الزمن بين الشمس والقمر قسمة عادلة فللشمس الأيام والأسابيع، وللقمر الشهور والسنون.
قال الإمام ابن كثير في تفسير سورة يونس: (فبالشمس تعرف الأيام،وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام).
ونحن نعلم أن الأوربيين يعتمدون في معرفة الشهور والسنين على التقويم الشمسي لا القمري، ومع ذلك فقد وجدت في بعض لغاتهم كلمات تدل على ارتباط الشهور بالقمر لا بالشمس، ففي اللغة الإنجليزية نجد أن القمر يعني: (moon)، وأما الشهر فهو عندهم (month)،فكأنهم اشتقوا للشهر اسماً من اللفظة التي تدل على القمر، وكذلك في اللغة الألمانية نجد أن القمر يعني (mond) (موند)، والشهر يعني ((monat (مونات)، وقد وجدت في موقع ويكبيديا باللغة الألمانية ما ترجمته أن لفظ (مونات) أي الشهر مشتق من (موند) أي القمر، بل وجدت في بعض المعاجم أن كلمة (mond) التي تعني القمر تعني الشهر أيضاً، وإن كان الألمان الآن لا يستعملونها بهذا المعنى،وقد طلبت من أحد تلاميذي في ألمانيا ممن هم أكثر دراية باللغة الألمانية أن يبحث في هذه الجزئية، فأفادني بأنه قد وجد في بعض المصادر ما يشير إلى أن لفظة (موند) التي تعني القمر كانت قديماً تطلق أيضا على الشهر،لكنها الآن لا تستعمل بهذا المعنى إلا في الأشعار ونحوها.
2- وأما المثال الثاني فهو أننا نعرف من شريعتنا تفضيل اليمين على الشِّمال، وأن أهل الجنة يوم القيامة هم أصحاب اليمين، وأن أهل النار هم أصحاب الشِّمال، وأن أهل الجنة يؤتون كتابهم بأيمانهم،وأن أهل النار يؤتون كتابهم بشمائلهم،وفي حديث عائشة رضي الله عنها (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله).
[أخرجه البخاري (168) ومسلم (268) ].
وقد وجدت في اللغات الأوربية ما يشير إلى استعمال لفظ اليمين في الأمور الحسنة،ففي اللغة الإنجليزية نجد أن كلمة (right) تعني اليمين،ولكنها تعني عندهم أيضاً الحق، وتعني الصحيح،وتعني العدل، وكذلك في اللغة الألمانية نجد كلمة (recht) يشار بها إلى الشيء الذي على جهة اليمين، وهي تعني أيضاً الحق والصواب،وقد اشتقت للعدالة عندهم اسم من نفس الجذر وهو: (gerchtigkeit) والمحكمة عندهم: (gericht).
وهذا يعني ارتباط لفظة يمين في أصول لغاتهم بمعاني الخير والعدل والإنصاف.فمن أين أتى لهم ذلك؟ وليس في معتقداتهم مثل ما عندنا من تفضيل اليمين على الشمال، ولا يظهر في حياتهم العادية شيء من ذلك التفضيل، بل إنهم في كتابتهم يكتبون من الشمال إلى اليمين وليس من اليمين إلى الشمال كما هو الحال في اللغة العربية؟ لست أملك تفسيراً لذلك، إلا أن يكون ذلك شيئاً قديماً قد بلغهم من دعوة الأنبياء والمرسلين،أو من بقايا فطرة الله التي فطر الناس عليها،أو غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله فهو سبحانه أعلى وأعلم.
- د. عبد الآخر حماد يكتب: الغِذاء والغَداء والفُطور.. مدارسة لُغوية - السبت _18 _مارس _2023AH 18-3-2023AD
- د. عبد الآخر حماد يكتب: معاونو الاحتلال.. من أبي رِغال إلى عبد العال - الجمعة _10 _مارس _2023AH 10-3-2023AD
- د. عبد الآخر حماد يكتب: خرافة التوحيد الأخناتوني - الأحد _5 _مارس _2023AH 5-3-2023AD