في أجواء حرب مخيفة من عام 1940 -سميت بالحرب العالمية الثانية- كتب توفيق الحكيم هذه المسرحية الشعرية المستوحاة من سفر «نشيد الأنشاد»، أحد أسفار العهد القديم.
يقول الحكيم في مقدمة المسرحية
إن هذا السفر كتبه النبي سليمان قبل ألف عام من الميلاد تحية للحب والربيع، وقد احتفى بالنص عديد من الأدباء الفرنسيين، ولا يليق أن يبقى النص بعيدا عن المعالجة الأدبية العربية.
في عام 1940 لم تكن هناك إشكاليات دينية بالغة الحساسية كما هي اليوم، وكان هناك قدر من النضج الثقافي والتسامح والقبول لاعتبار سفر «نشيد الأنشاد» مادة للحب والغزل.
لو كتبت اليوم في محرك البحث على يوتيوب اسم السفر ستجد عديدا من اللقاءات لآباء الكنيسة المصرية -بداية من البابا الأكبر وحتى أحدث كاهن- يحذرون من اعتبار السفر حالة عاطفية بين رجل وامرأة بل هو حب رمزي بين الله والكنيسة أو حب رمزي بين الله والإنسان.
لم تكن هذه التفسيرات مطروحة في عام 1940، كان الوسط الثقافي المصري -المحدود في رقعته وعدد المنتمين إليه- وسطا متسامحا متنوع الثقافات.
على هذا النحو،
حسم الحكيم أمره منذ البداية ولم يشغله رمزيات الحب الإلهي أو ما قد يقوله بعض الآباء من أن النص حالة حب صوفي وتجليات رهبانية لا مادية لا حسية. ومن ثم، اعتبر الحكيم «نشيد الأنشاد» حالة حب وغزل بين رجل (النبي سليمان) وامرأة جميلة من فتيات أورشيلم (شولميت).
المسرحية التي كتبها توفيق الحكيم كأنها ترجمة عربية-عربية متصرفة عامرة بالخيال والتألق الغزلي لنفس النص الديني الوارد في السفر الشهير الذي يعتبره آباء الكنيسة المصرية سفرا وسيطا بين أسفار النبي سليمان: أي بين «سفر الأمثال» الذي يفيض بالحكم والمواعظ الوقورة و«سفر الجامعة» الذي يفيض بالزهد واعتبار كل ما تحت الشمس باطلا زائلا.
يعرف سفر «نشيد الأنشاد» في الإنجليزية باسم «أغنية الأغاني» وفي الروسية «أجمل أغاني سليمان» بل المدهش أنه في اللغة الأوردية يسمى «غزل الغزلات»!
على هذا النحو
توحي تسمية السفر في اللغات المختلفة بأنه بالضرورة «أغنية» أو مقطوعة «غزلية» في الحب والعشق.
وكما في الإسلام تتجاوز مفاهيم العشق المحسوس المادي بين الرجل والمرأة إلى اللامادي اللامحسوس أي ما هو روحي صوفي وجداني بين الإنسان والله.
لا أعتقد أن الحكيم في عام 1940 كان مضطرا لكتابة اعتذاريات وتأويلات بهذه المعانيى لأنه حسم أمره من البداية بأن مسرحيته هي احتفاء بالحب في مواجهة الحرب.
على هذا النحو أطلق الحكيم لقلمه العنان وسطر واحدة من أجمل التجليات الشعرية المسرحية في العصر الحديث.
يتماهي الحكيم مع النص فيبدع تجليات مدهشة في الغزل والوصف والهيام ووصف المحسوس والملموس.
لا يتفلت الحكيم في خياله اللغوي من تتابع الآيات والإصحاحات، بل يضع نص السفر كاملا في نهاية المسرحية لمن أراد المقارنة والتأكد، ولمن أراد أن يعرف إلى أي درجة عبقرية وصل خيال الحكيم اللغوي ورهافة مشاعره وثراء قاموسه وأخيلة عباراته.
المكان في المسرحية كما في السفر:
أرض فلسطين المقدسة التاريخية حيث مملكة سليمان وتكرار اسم أورشليم، وجبل جلعاد في غرب البحر الميت، فضلا عن «شارون» وهو الاسم العبري الذي يعرف به سهل «صارونة» في فلسطين على البحر المتوسط.
التجليات المكانية في المسرحية المستوحاة من السفر تتأرجح بنا بين الجبال الشاهقة وسهول البرية،
ومن هذه السهول تتجلي لسليمان حبيبته وكأنها عمود من دخان معطرة بالمر واللبان وكل ما عند التجار من بخور.
الوصف الأخير هو أحد قرائن آباء الكنيسة المصرية على أن النص لا علاقة له بالغزل الحسي بين رجل وامرأة بل إن الدخان والبخور هي رمز للصلوات في الكنيسة.
لا تقتصر جغرافية السفر على فلسطين بل تستحضر السلطة والأبهة في مصر القديمة حين يتغزل سليمان في حبيبته
فيراها في تألقها فرسا جميلا في موكب فرعون، فرسا أحمر الخدين، بهيا طويل العنق، مرصعا باللؤلؤ، عليه قلائد من ذهب موشاة بالفضة.
في الشطر الأخير من السفر يكاد ينفلت الغزل العفيف من قلم الحكيم إلى الغزل الحسي الصريح قبل أن يلجم مؤلفنا الخيال ويعود إلى الأشعار العذرية المستوحاة من السفر الديني.
مسرحية الحكيم انتبهت إلى قاموس السفر الأصلي المحتفي بالحيوان والنبات
وهما عناصر البيئة البكر قبل 3 آلاف سنة فكان كل من سليمان وحبيبته شولميت يتبادلان الغزل في مقطوعات ثنائية مستوحاة من هذه البيئة.
يقول سليمان لحبيبته:
▪️ ما أجملك، ياحبيبتي، ما أجملك !
▪️▪️عيناك حمامتان هادئتان تحت نقابك
▪️ سريرنا العشب الأخضر
▪️▪️ دعائم سقفنا الأَرز
▪️ وزخارف بيتنا السَرْو
فترد شولميت قائلة :
▪️▪️ أنا نرجس شارون
▪️ أنا سوسنة الوديان
فيبادلها سليمان قائلا:
▪️▪️ أنت، يا حبيبتي، بين النساء
▪️ كالسوسنة بين الأشواك
فتعقب شولميت قائلة:
▪️▪️ أنت، يا حبيبي، بين الرجال
▪️ كشجرة تفاح بين الأدغال
▪️▪️ اشتهيت الرقاد في ظله
▪️ وملء فمي بحلو ثمره.
وحين تنام شولميت يشدو سليمان قائلا:
▪️▪️ أستحلفكن بالله يا بنات أورشليم
▪️ بغزال المروج وأيل الحقول
▪️▪️ ألا توقظن حبيبتي
▪️ حتى تشاء….
أعاد الحكيم تدوير عبارة وردت في السفر غير مرة:
«أنا لحبيبي وحبيبي لي»
لم يغير فيها الحكيم حرفا واحدا، تكررت هذه العبارة ثلاث مرات في المسرحية، تقولها شولميت وهي تنتظر سليمان،
تقولها وهي تستحضر الطمأنينة بأن حبيبها سيعود من سفره وترحاله وحملاته العسكرية.
تقولها لبنات أورشليم وهن يسألنها مستنكرات شامتات: أين حبيبك؟
فتجيبهن: «أنا لحبيبي وحبيبي لي»!
ستصبح هذه العبارة الأثيرة بعد عدة عقود من مسرحية الحكيم عنوانا لأشهر أغنية للأخوين رحباني تشدو بها فيروز في صوت يبدو أنه يعود إلى ثلاثة آلاف سنة،
صوت من زمن البكارة وعصر الأزاهير، ومرح الغزلان، وروائح السوسن والنرجس وأطياف الفراديس.
«أنا لحبيبي وحبيبي لي» عبارة متجاوزة للزمن، يقولها من ينتظر حبيبا فقده،
ومن يتمنى تجلي طيف الحبيب في الغد القريب البعيد، يقولها بعضنا في الحب الدنيوي الملموس،
ويقولها بعضنا في الحب الإلهي اللامتناهي بلا حدود ولا متصورات.
- د. عاطف معتمد يكتب: من صديق ملهم إلى عدو مدمر! - الجمعة _3 _فبراير _2023AH 3-2-2023AD
- د. عاطف معتمد يكتب: ما بين 1991 و 2023! - الثلاثاء _31 _يناير _2023AH 31-1-2023AD
- د. عاطف معتمد يكتب: من الإسكندرية إلى لندن ونيويورك! - السبت _28 _يناير _2023AH 28-1-2023AD