أخذت الصورة المرفقة لأحد الأقواس البحرية التي يعمل فيها النحت البحري وتنشط تعرية الأمواج على ساحل الإسكندرية.
النقطة التي وقفت فيها لأخذ الصورة تقع قبالة مسجد سيدي بشر، وهذا المسجد أحد المعالم القليلة التي ستبقى على قيد الحياة بعد ارتفاع البحر وغرق الكورنيش. لن يحدث ذلك لكرامة أو معجزة في المسجد بل لأنه بني على تل صخري بارتفاع 10 أمتار فوق سطح البحر.
لم يكن هذا التل علما فردا واحدا وحيدا بل كان جزءا من سلسلة صخرية موازية للبحر تسمى السلسلة الساحلية الممتدة من أبو قير حتى العجمي وما خلفها وصولا إلى السلوم، قبل أن يتم هدم هذه السلسلة عبر العقود لبناء عمارات الكورنيش.
كتبت على الصورة موضع الكازينو الذي أغرقته مياه البحر وقوضت بنيانه. ويمكنك بكل سهولة حين تسير في هذه المنطقة أن ترى أثر القواعد الحديدية التي كان يقف عليها الكازينو الذي صار من الذكريات.
وفي الطرف المقابل للصورة كتبت مسمى “نادي السيارات”، ولعله اليوم لدى المصريين المحدثين مسمى غريب مثير للدهشة: هل يجتمع أصحاب السيارات في ناد؟
والحقيقة أن المسمى قديم منذ أيام العصر الملكي وحينها لم يكن يملك السيارات سوى ثلة من الأمراء والنبلاء والباشوات وعلية القوم، وكانت السيارات متنوعة الصناعة ولكثير منها أهداف استكشافية في الرحلات والصحاري والسفاري.
نادي السيارات حصن مغلق على أعضاء محدودين ومحاط بسور عازل من الجهات الأربع، ولا يهتم به أحد في تجاهل شبه متعمد.
إذا حسبنا المسافة الأفقية التي التهمها البحر في هذا القوس الطبيعي سنجدها تتجاوز 10 أمتار على الأقل ويلعب الموج فيها الآن بكل حرية حتى أنه يلامس الكورنيش الأسفلتي إلا قليلا، ويكاد يهدد السيارات المنطلقة عبر نهر الطريق قادمة من المنتزه متجه إلى محطة الرمل.
وقبل أن تتسرع في الحكم وتقول إن البحر التهم كل هذا القوس الساحلي، دعني أوضح أولا أن ساحل الإسكندرية في تكوينه الطبيعي مؤلف من سلسلة متتابعة من الرؤوس والخلجان القوسية، فمثلا نادي السيارات والذي يخفي خلفه بير مسعود يقع فوق رأس بحري متوغل في الماء، بينما القوس المقعر الذي أمامنا في الصورة هو خليج طبيعي صغير تتوغل فيه مياه البحر نحو اليابس.
وهذه الثنائية من الرؤوس والخلجان التي يجمعها ساحل الإسكندرية هي واحدة من عناصر جذبه الطبيعي وتفرده المكاني، وإذا أضفت إليها المكون الثالث وهو الجزر الصخرية المترامية أمام هذه الرؤوس والأقواس يصبح لدينا جغرافية باعثة على البهجة تثير في نفس الإنسان الطاقة والرغبة في الحياة والاستكشاف، جغرافيا تدعو إلى الاختراع والإبداع وروح الإلهام، وكل هذه الصفات هي التي يعرفها علماء الجغرافيا في العالم باسم “الطوبوفيليا” أي “حب المكان” ولعلنا نتفق أن حب المكان هو أحد عناصر منظومة كبرى مفتقدة في المواطن المصري الآن وهي “الانتماء إلى هذه الأرض وناسها ومصيرها” .
الأمتار العشرة الأفقية التي التهمها البحر من خط الساحل تفوق المعدلات الطبيعية التي كان يقوم بها البحر في توازنه مع الرؤوس والخلجان والجزر.
التيار البحري الذي يسير أمام الإسكندرية محكوم بنظام أرضي يجعله يتدفق من الغرب ومتجه إلى الشرق، والأمواج المندفعة نحو الساحل تسوقها رياح شمالية إلى شمالية غربية، وخط الساحل نفسه متجه من شمال الشرق ( أبو قير) إلى جنوب الغرب (العجمي)
وإذا وضعت كل ذلك في الحسبان ستكتشف أن ميزان التعرية البحرية كان يقوم على أن ينحت الموج والتيار البحري البروزات الصخرية المتقدمة من الرؤوس وينتقص من أطرافها.
لكن البحر يا عزيزي لا يأخذ شيئا لنفسه ولا يطمع في نهب ثروة الآخرين، بل البحر لو عرفته بنَّاء عظيم، لديه هدف نهائي بأن يحدث عدالة بيئية يأخذ من الأغنياء ويعطي الفقراء، أي أنه يريد أن يسلب الرؤوس الثرية القوية فيأخذ الفائض من الرمال ويمنحه للأقواس المقعرة الضعيفة المكتنفة في اليابس.
ولعلك الآن عرفت لماذا كانت تنتشر الشواطئ السميكة العميقة ذات الرمال البطروخية الخصبة في هذه الأقواس المقعرة، ولماذا قامت عليها مواضع الاصطياف في الماضي.
وإذا دققت النظر في الصورة التي معنا ستندهش لأن هذا القوس البحري كان أحد أغنى الشواطئ الرملية في الإسكندرية بينما تتراص الآن أمامه مصدات خرسانية من الحديد المسلح والإسمنت ذات الأرجل الثلاثية، وهي قابلة للمضاعفة في السنوات المقبلة أضعافا كثيرة.
وقد حدث هذا لأن اختلالا كبيرا بدأ منذ أربعة عدة عقود أصاب ساحل الإسكندرية وجعل البحر يضطرب في ميزانه ويضرب هنا وهناك بلا نظام، أو بالأحرى أوقع البحر كله في “اللانظام” جراء ما قام به الإنسان في ساحل الإسكندرية.
وأهم علامات “اللانظام” إقامة حواجز أمواج ومصدات خرسانية في كل القطاعات السكندرية بهدف نشر الأبنية الترفيهية والكازينوهات والفنادق لمواكبة الضغط المليوني على الإسكندرية كل صيف.
صحيح أن بعض حواجز الأمواج قامت لأهداف تنموية عامة مثل حماية الميناء إلى الشرق من قلعة قايتباي بحاجز خرساني ضخم للأمواج، لكن الأغلبية كانت لأغراض اختلاق واختراع واجهات بحرية اصطناعية للاصطياف وتشييد متنزهات لا يدخلها الناس إلا بأسعار مرتفعة.
وحين اختل النظام البحري، لم تعد تيارات البحر تدري أين الرؤوس المدببة وأين الأقواس في الخلجان المقعرة. القوى البحرية رغم ذلك عمياء تعمل بالاحتكاك والصدام وليس بالرؤية البصرية !
ولعل هذا يفسر أن الأمواج صارت تقوم بدور عكسي مخالف لطبيعتها فإذ بها تنحت وتقعر وتزيد من تراجع الأقواس المقعرة، وكأن الأمواج والتيارات البحرية تخلت عن دورها العظيم بإعادة توزيع الثروة الرملية وتحقيق العدالة في النحت والإرساب وأصبحت هي الأخرى شرهة ظالمة لا تشبع.
لا ظلم ولا عدوان في الأمواج بطبيعتها، لقد أخل الإنسان من النظام البيئي هنا فحول البحر من أكبر صديق ملهم إلى أكبر عدو مدمر.
ولا عجب في هذا، فحياتنا في العقود الأخيرة هي مثال مدهش على كيفية خسارة الأصدقاء وتحويلهم من أعوان ملهمين إلى أعداء ظالمين.
الحديث عن البحر والنظام البيئي والنحت والإرساب لا ينتهي. ولعلنا نكمل مع الإسكندرية في مقالات أخرى بإذن الله.
- د. عاطف معتمد يكتب: الذين هبطوا من السماء! - الجمعة _10 _مارس _2023AH 10-3-2023AD
- د. عاطف معتمد يكتب: استدانة من الصحاري المصرية إلى ساحل الإسكندرية! - السبت _4 _مارس _2023AH 4-3-2023AD
- د. عاطف معتمد يكتب: ما الذي يجمع النوستالچيا مع الجغرافيا؟! - الأثنين _13 _فبراير _2023AH 13-2-2023AD