احتلت تركيا كل الاهتمام باعتبارها وسيطا مرجحا ومقبولا لدى عديد من الأطراف لإيجاد حل للحرب في أوكرانيا.
يبدو الأمر غريبا: كيف يمكن لتركيا (عدوة روسيا) أن تكون وسيطا لها؟
الحقيقة أن تركيا هي أفضل وسيط من وجهة نظري لثلاثة أسباب:
السبب الأول:
تعد تركيا هي العدو اللدود لروسيا على مدار ثلاثة قرون متصلة، لم تتحول يوما لصديق، ولم تغير عقيدتها العدائية ولم تجعلها روسيا يوما صديقا.
هذه الحالة من العداء التام تجعل تركيا هي أكثر الأطراف يقظة وفهما للوضع الروسي وهي الأرجح على فهم سيكولوجية الكرملين.
تركيا ليست صديقا يفهم روسيا وقت الصفاء بل خصما يحصي كل التفاصيل وبالتالي هي الخبير الأول في الملف الروسي.
السبب الثاني:
خطت تركيا خطوة حكيمة ومتوقعة من علماء الاستراتيجيا حين لم تنضم لأي حصار اقتصادي على روسيا،
ولم تستجب لأوكرانيا بغلق ممرات البحر الأسود أمام السفن الروسية.
لم تفعل تركيا ذلك حبا في روسيا ولا كراهية لأوكرانيا بل لأنها تفهم اللحظة الحرجة للتاريخ والصراع الدولي.
وقد أعطت هذه السياسة الثاقبة مساحة من التقدير لدى الكرملين.
السبب الثالث:
هناك ثقة من الناتو تجاه تركيا، وهناك اعتقاد أكيد بأن تركيا (عدو روسيا عبر القرون) لا يمكن لها أن تساعد روسيا في الخروج من الأزمة منتصرة على بقية الأطراف.
حين انهار الاتحاد السوفيتي قبل 3 عقود خرجت أطروحات تستشرف الغد وتفكر في السبل التي يمكن لروسيا أن تنتهجها لتعويض خسارتها في تحالفات جديدة.
تحالف روسيا والعالم الإسلامي؟!
كان المفكر الأمريكي صمويل هنتنجتون في أطروحته الشهيرة «صدام الحضارات» قد اقترح عدة سيناريوهات لعودة روسيا لوضع القطب الدولي ممثلا في قيام تحالف بين روسيا والصين أو بين روسيا والعالم الإسلامي.
كان التحالف المتوقع بين روسيا والعالم الإسلامي هو أحد السيناريوهات القوية لدى هنتنجتون لأسباب عدة ولو أعدنا قراءة هذه الأسباب بعد ثلاثين سنة سنرى أهمها فيما يلي:
هناك عقلية شرقية أبوية أقرب لرفض ونبذ الخيار الديمقراطي في كل من روسيا والعالم الإسلامي
هنـاك تراث مغولي تترى في نظم الحكم والإدارة والبيروقراطية مشترك بين روسيا والعالم الإسلامي
هناك عداء مشترك تجاه القيم الغربية والولايات المتحدة بين روسيا والعالم الإسلامي.
هنـاك جوار جغرافي واتصال بري وبشري بين روسيا والعالم الإسلامي يجعل منهما أعتى قوة «بهيموث» في التاريخ الجغرافي.
قدمت روسيا مساعدات عظيمة لعدد من دول العالم الإسلامي في تحديه للاستعمار الغربي: إيران – مصر – العراق – اليمن – ليبيا …إلخ.
يعيش في روسيا ما بين 20 إلى 30 مليون مسلم، ليسوا لاجئين ولا مهاجرين بل أصحاب أرض أصليين منذ عشرة قرون،
هؤلاء السكان رقم أكبر بكثير من حجم دول عربية وإسلامية صغيرة ومتوسطة الحجم،
مما يجعل روسيا من زاوية ما دولة ذات مكون إسلامي أخذا في الاعتبار أن 30 مليون مسلم هو رقم كبير في دولة لا يزيد عدد سكانها عن 150 مليون نسمة.
أثبت الكرملين احترامه للثقافة والرموز الإسلامية فلم يحظر مثل فرنسا الحجاب واستمر يدعم مجالس الإفتاء وبناء المساجد والمدارس الإًسلامية وما إلى ذلك.
حرب الشيشان باعدت بين روسيا والعالم الإسلامي
كان كل شيء بوسعه أن يمضى كما يتوقع صمويل هنتنجتون لولا الفاجعة التي حدثت في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين وحتى عام 2005
حين دخلت روسيا في حرب في الشيشان التي حاولت الانفصال وتسببت روسيا
-ولا سيما في عهد بوتين- في خراب وتدمير وقتل وتشريد للشعب الشيشاني
الذي وقع ضحية التدخل الغربي والسلفي أمام رعب روسيا من انفراط عقد الجمهوريات الروسية.
يمكن اعتبار محاولة الشيشان للانفصال خلال فترة الترنح الروسي (1990-2000) قبل وصول بوتين هي النقطة الفاصلة،
وهي النار التي باعدت بين روسيا والعالم الإسلامي وحالت بين السيناريو التخيلي لصمويل هنتنجتون.
مرت ثلاثون سنة، لم يتحقق أي شيء من سيناريو هنتنجتون بل تحقق الكثير «ضد» هذا السيناريو.
فمنذ تفكك الاتحاد السوفيتي اندفع حلف الناتو لملء فراغ «العالم الإسلامي المرشح للتحالف مع روسيا»
سواء بالتحالف والقواعد العسكرية والانقلابات الموالية أو بالاحتلال المباشر كما في أفغانستان والعراق وغيرها.
دعونا نعود لبداية المقال من أن تركيا صارت بطلة الأخبار كوسيط محتمل لحل الأزمة.
هل تتخيل كيف يمكن أن يتغير النظام العالمي إذا ما تحالفت روسيا مع أقطاب العالم الإسلامي: تركيا وإيران ومصر وباكستان والعراق وسوريا والسعودية؟
هل تتخيل كيف كان يمكن أن يكون الوضع الحالي لروسيا بدلا من اعتمادها على بضعة آلاف من المرتزقة الذين يسميهم الكرملين متطوعين من العالم الإسلامي؟
- د. عاطف معتمد يكتب: ربع قرن في مصر! - الأثنين _23 _مايو _2022AH 23-5-2022AD
- د. عاطف معتمد يكتب: هل حقا.. الروس قادمون؟! - الأربعاء _18 _مايو _2022AH 18-5-2022AD
- د. عاطف معتمد يكتب: روسيا تحارب في أوكرانيا بتمويل أوروبي! - الثلاثاء _3 _مايو _2022AH 3-5-2022AD