الهجرات نقلات نوعية في تاريخ البشرية، عادة ما تعزى إلى مصدرين.
فالأسباب الطبيعية للهجرة هي الأقدم والأشهر، وحدثت لتغيرات بيئية من قحط وجفاف أو فيضان عرمرم.
في التحليل الأنثروبولوجي، المجرد من سرديات الأديان، لولا التغيرات المناخية لما تم تعمير العالم، ولبقيت الجماعة البشرية الأولى في موطنها في شرق أفريقيا ولم تعبر القارات.
لو بقي الإنسان الأول في مهبط نشأته دون تغير بيئي وصراع على الموارد المتاحة ما انتشر البشر إلى كل بقاع الأرض وما وصلوا سيبيريا وعبروا مضيق بيرنج إلى الأميركيتين،
وفي كل قارة تكتسب الجماعات البشرية ألوان بشرتها وشكل ملامحها المغاير للوطن الأم الذي هاجرت منه،
ولذلك قيل في الهجرة “ماما أفريكا” وليس كما يقال في السياسة “ماما أميركا”.
وتعمير مصر على سبيل المثال هو الابن الشرعي لهذه الهجرات من “ماما أفريكا” نتيجة ما وصلنا من موجات بشرية مرت بالصحراء الشرقية والغربية في طريق الهجرات البشرية إلى خارج أفريقيا Out Of Africa .
سكن الإنسان المهاجر صحاري مصر التي كانت أقاليم عامرة بالمياه والتنوع البيئي في العصور القديمة التي تشير أدلتها في الصحراء الشرقية إلى ما يتجاوز 100 ألف سنة.
وكان نهر النيل وقتها لا يصلح للسكن لشدته وعنفوان جريانه وعدم ملائمة الأرض على ضفتيه للمعيشة.
وتصادف في تاريخ بيئي لاحق أن تغيرت بيئة الصحراء إلى الجفاف فاختفت الحيوانات والنباتات،
وأخذ نهر النيل يسير في طريقه نحو النضج وتكوين أرض فيضية مناسبة للسكن والزراعة فهجر الإنسان الصحراء –مضطرا- إلى النيل وبدأ الاستقرار
وبدأت مع هذه الهجرة الحضارة، فحضارة مصر القديمة التي هي حضارة العالم هي ابنة الهجرة من الصحراء إلى الوادي.
الملاحم الدينية التي جاءت في الكتب المقدسة ترجع الحراك والتغير الذي حدث في العالم إلى الهجرة أيضا، فعلاوة على فيضان نوح،
فإن الشعوب التي عاشت على أطراف الصحراء هاجرت إلى مصر منذ أيام الأنبياء الأوائل،
فانطلقت موجات الهجرة من صحراء الشام وفلسطين إلى بلادنا، على نحو ما لجأ إلى مصر نبي الله إبراهيم،
ويوسف الصديق عليه السلام وكما فعل بنو إسرائيل واستقروا في هوامش شرق الدلتا قبل أن تبدأ هجرتهم مجددا خارج مصر عبر سيناء إلى فلسطين.
توالت موجات الهجرة للأسباب الطبيعية كما حدث في شرق آسيا ودفع الجوع والعطش شعوب المغول والتتر للتحرك غربا على الأرض الغنية فانقلبت خريطة العالم،
وسقطت دول وقامت ممالك جديدة واختلطت أعراق البشر وانتشرت ديانات وتقلصت أخرى.
لا يؤرخ الإسلام تاريخه بمولد الرسول أو وفاته، بل بالهجرة من مكة إلى المدينة. وهو اختيار موفق للغاية،
فقد كانت الهجرة إنقاذا للدين الجديد وتحريكا في المراكز الجغرافية من البؤر التقليدية القديمة إلى مواقع أكثر تسامحا.
أصعب أنواع الهجرة تلك التي ارتكبها الإنسان في حق أخيه الإنسان في الحروب والصراعات والنزاعات التي تؤدي إلى فرار ملايين البشر.
لو نظرنا إلى تاريخ العالم سنكتشف أنه متأثر للغاية بالهجرات، الطبيعية والبشرية، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إن العالم «ابن الهجرة»
وباستثناء بضع دول مستقرة لديها كل شيء ولا تحتاج لبقية العالم (الهند – الصين – العراق – مصر)
فإن كل أرجاء العالم هاجرت للأسباب الطبيعية والصراع البشري.
وحتى الدول التي استقرت ولم تهاجر اضطرت لاستقبال الغزاة من المهاجرين وتأثرت بهم وتغيرت حياتها سلبا في كثير من الأحيان،
وإيجابا في أحيان أخرى. وكانت أسوأ السلبيات قعودها عن الحركة وألفتها الخضوع والمذلة،
فالخصب والنماء والوفرة والخيرات مدعاة للحرص ومجلبة للذل والهوان، وفقا للتقليد التراثي الشهير.
على المستوى الفردي تشكل الهجرة طوق نجاة لأصحاب العقول الوقادة والقلوب الشجاعة التي لم تتحملها الأنفس وصغر عليها المقام.
نحن في مصر مثلا نعاني من ضعف قدراتنا على الهجرة، فلا نحن نهاجر خارج البلاد ولا ننقل حياتنا خارج «المعمور» المصري،
وإذا استمر الوضع هكذا من ابتلاع التربة الزراعية لصالح السكن والخرسانة،
ومن دون معجزات تكنولوجية في تحلية المياه بتعمير الصحراء فمصيرنا إلى مجاعات وحروب أهلية ونزوح وتردي وإفلاس وانتظار المعونات والتبرعات ورهن قرارنا لمن يعطينا الغذاء: وضيعا كان أم عظيما !
الهجرة عملية بالغة القسوة في انتزاع الإنسان من وطنه الذي أحب وتعلق به، ولكنها مع ذلك ضرورة لا غنى عنها،
والهجرة مسئولة عن تشكيل العالم الذي نراه على الخريطة اليوم،
وهي عملية تفسر ما حدث في تاريخ البشرية عبر آلاف السنين الماضية، وستبقى أحد أهم عوامل تحديد خطواته في المستقبل.
- د. عاطف معتمد يكتب: ابن بطوطة عن سيبيريا! - الثلاثاء _9 _أغسطس _2022AH 9-8-2022AD
- د. عاطف معتمد يكتب: العالم ابن الهجرة! - الأحد _31 _يوليو _2022AH 31-7-2022AD
- د. عاطف معتمد يكتب: ستالين جراد.. سابقا! - الأثنين _25 _يوليو _2022AH 25-7-2022AD