من حديث السيرة.. من معالم تجربتي في الدراسات العليا (٢)
حاولتُ ما وَسِعنِي الحِوَالُ في مسيرة العمر البحثي أن آخذ نفسي في ما ييسرني الله له من إنجاز بألا أسوقَ المُعَاد والمكرور من القول؛
وأن يكون لي في كل عمل أخرجه للناس ما أحتمل تبعته؛ ٌفَيُحْسَب لي أو عليّ، حتى لا يقول قائل: إن هي إلا بضاعتنا ردت إلينا.
وأحسب أن إذعان المرء لجلال العلم واحترامه للقاري ووقته عَسِيَّانِ أن يأخذا بيد الباحث إلى هذه السبيل.
لا جَرَمَ أن لهذا المذهب كُلْفتَه؛ فالآخذ به يُفَوّتُ على نفسه الانتفاع بزهرة الحياة الدنيا، ولا يعبأ بما يحفز بعض الباحثين إلى الولع بأن يكون أول من كتب في كذا وكذا؛
فهو إنما يفعل اقتناصا لقصب السبق من غير استحقاق،
وبدارا أن يعالِجَ القضية باحث صبور، يتيح بأناته للفكرة الوافدة أو القارَّة أن تأخذ نصيبها من المراودة والمراجعة، ووقتها من الغرس والاستنبات والسقيا؛
فلا غَرْوَى أن يَخْرج العَجُول للساغبين بالرأي الفطير والشواء المُلَهوج، وأن تقرأ في ما تقرأ تأليفا أشبه بترجمة،
أو ترجمة أشبه بتأليف في تدليس ظاهر لا يخفى على ذي نظر، وما هو إلا إيثار لحظ النفس من الشهرة وتَصَدُّر المجالس على كتابة ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وليس وراء ذلك وراء.
صحبة الشيخ عبد اللطيف الخطيب
ولقد أكرمني الله بصحبة الشيخ عبد اللطيف الخطيب – رضي الله عنه وأمتعنا به – فأعانتي هذه الصحبة الكريمة على شيطاني؛
إذ وجدت الرجل يعكف ستًّا وعشرين سنة على إنجاز «معجم القراءات» في غير كلل أو ملالة، وكأنه يحيا خارج الزمن. ووجدته يستحثني للمشاركة في تصنيف «التفصيل في إعراب آيات التنزيل»،
فيأخذ العمل من عمري وعمر شريكيَّ ست عشرة سنة. وأشهد أن له في ذلك فضل القدوة والتأسي؛ لا في هذه الطريق حسب،
بل في شؤون الحياة والمعاش فقد لقيت أنا وإياه من ذلك -ولعلنا لا نزال-
النصب كل النصب والبلاء جَهْدَ البلاء من حقد الحَقَدَة وتنغيص السفهاء، فما كان ذلك ليكلفنا انحناءً أو التفاتا إلى وراء،
والحمد لله على ذلك حمدا كثيرا طيبا.
لذلك كان من مذهبي أن أنقل هذا المعنى جَهدَ طاقتي إلى تلاميذي، وأن آخذهم به أخذا شديدا في اختيار موضوعات الأطاريح العلمية،
وكثير منهم وقع على موضوعه في سياق المحاضرات وما يشهده فيها من جدل وقدح للأذهان (وهو ما يسمى العصف الذهني في لغة هذا الزمان).
فوجدت منهم من اقترح العمل على «التوجيه الإعرابي للدليل الفقهي: دراسة في حروف الجر والعطف»،
ومن اشتغل بالدليل اللغوي بين الأشاعرة والمعتزلة، ومن نهض بموازنة جديدة وعبقرية بين الطائيين من منظور الأسلوبيات الإحصائية،
ومـن كتب في «لغة الخطاب السياسي في موقعة صفين» ومن سلك سبيلا لتأريخ الأدب معتمدا على التحليل الأسلوبي الإحصائي للنصوص،
ومن اضطلع بعبء التأريخ اللساني لتطور لغة الصحافة، وهَلُمّ على هذا الجر والسحب مما يضيق بحصره المقام.
على أن رحلتي مع الإشراف العلمي بالغة التنوع؛
فمن الرسائل ما كان الإشراف عليه خالصا لي، ومنه ما شاركني فيه زملاء كرام لاعتبارات لائحية،
ومنها ما قمت عليه تطوعا وحسبة لوجه الله والعلم ولم ينسب لي منه شيء، ليس إلا كلمات الشكر المعتادة في خطبة المناقشة.
والطريف أن بعضا من هؤلاء كان من الباحثين في غير كليات الآداب ودار العلوم (كليات الإعلام مثلا)، وأني أشرفت عليهم بالغيب، وما عرفتهم ولا لقيتهم كفاحا إلا بعد تمام الأمر وحصولهم على درجاتهم العلمية.
ولأن جامعة الكويت لا تطرح برنامجا للدكتوراه، ولأنني ما أطقت -ولا هم أطاقوا-
أن أتخلى عن تلاميذي الذين درست لهم وتواشجت علائقي العلمية والإنسانية بهم في مرحلة الدراسات الجامعية الأولى والماجستير =
كان اقتراحي للموضوعات وإشرافي على رسائل وجهتهم فيها إلى كليات الآداب ودار العلوم (وقد شاركت بالمناقشة في بعضها)،
وعلى رسالتين أنجزتا في جامعتين من جامعات نيجيريا
والحقُّ والحقَّ أقول:
لقد أفدت من ذلك في تكويني وخبرتي المعرفية كثيرا، وأفدت طلابي بقدر جهدي وعلى مقدار تقبّل قرائحهم وفهومهم، والتفاوت في هذا راتب -كما نعلم- بين الخلق.
وأشهد الله -ولا مَنٌّ على أحد بطاعة- أنني استفرغت الوسع وأنفقت غواليَ السنين في هذا العمل؛ فما كنت لأخذل والدي رحمه الله في ما دعا لي به،
وما خذلت طالب علم في مطلب قدرت عليه، إلا ما يكون من قول بعضهم لي: اقترح علي موضوعا أكتب فيه!
إذ إن لي في ذلك رؤية أرجو أن أبين عنها في قابل إن شاء الله.
- د. سعد مصلوح يكتب: رأيت يد الله - الأحد _28 _أغسطس _2022AH 28-8-2022AD
- د. سعد مصلوح يكتب: ما أبعد الليلة عن البارحة - الأثنين _22 _أغسطس _2022AH 22-8-2022AD
- د. سعد مصلوح يكتب: شاهد على إحدى معارك الأستاذ العقاد - الأحد _14 _أغسطس _2022AH 14-8-2022AD