حين كنت في الخامسة عشرة جلست في أحد الفصول الدراسية في مدرسة المنيا الثانوية لأكتب البيانات المطلوبة في استمارة التقدم لامتحان الثانوية العامة. تضمنت الاستمارة سؤالا عجيبا ما تصورت أن يترتب عليه شيء وهو:
– ما الكلية التي ترغب في الالتحاق بها في حال نجاحك؟
كتبت ولم أتردد: «كلية دار العلوم»
ما كانت قامات العظماء من أبناء الدار لتبرح مخيلتي، أولئك الذين أدمنت القراءة لهم وتشكل مزاجي الكلاسيكي المنفتح في ظلال نتاجهم
(ولاسيما حفني ناصف وحمدان مصطفى وعلام سلامة)
حتى حسبت أصواتهم تناديني أن الحق بنا فقلت في نفسي: سمعت وأطعت. وقد كان.
وعندي في هذا المقام حكايتان. طريفتان لست أدري أللأجيال الشابة من أبناء الدار علم بها ؟
أولاهما أن القبول بالدار في ذلك العام (١٩٥٩ / ١٩٦٠) كان مشروطا باجتياز اختبار مقابلة يجلس فيها الطالب إلى علمين من أعلام الكلية ليبتا في مصير التحاقه بها.
وكان قدري أن يكون اختباري أمام الأستاذ الدكتور أحمد أحمد بدوي أستاذ النقد الأدبي القديم والمؤرخ العظيم الأستاذ الدكتور محمد ضياء الدين الريس رفع الله درجاتهما في دار كرامته.
ولعل أغرب سؤال تلقيته في هذه المعصرة هو ما كان من الأستاذ الدكتور الريس وهو: هل تكتب شعرا؟
بغتني السؤال ولكني فرحت به.
وانطلقت ألقي أبياتا من شعر الصبا وقعت من الشيخين موضع الإعجاب على تواضع مستواها ويومها أيقنت أن الشعر كان شفيعي لدخول هذا الحرم العلمي الجليل.
وأما الأخرى فكانت مع تحديد موعد المناقشة للماجستير فقد أصبح من التقاليد الغائبة الآن أن يؤدي الطالب قبل انعقاد جلسة المناقشة امتحانا تحريريا شاملا في مجال تخصصه وفي موضوع رسالته، وأن تطلع لجنة المناقشة على ورقة إجابته قبل الحكم على الرسالة لتكون من حيثيات إجازة الدرجة.
هما تقليدان رائعان غائبان:
اختبار المقابلة والاختبار التحريري قبيل مناقشة الماجستير. وإنه ليحزنني أن يؤول الأمر إلى زمن عشت أيامه بالكلية كانت الدار هي الحل المريح المعتمد لدى الدولة لاستيعاب من لا مكان له من حملة شهادة الثانوية العامة فأتاها السيل محتملا زبدا رابيا. ولم يكن عجبا أن يذهب الزبد جفاء وألا يمكث منه في الأرض سوى القليل الذي ينفع الناس.
أما الأستاذ الدكتور احمد بدوي الذي تولى منصب وكيل الكلية في عمادة شيخنا العظيم إبراهيم أنيس فقد رأيته بأم عيني وهو يأتي إلى الكلية كل يوم تقريبا في السابعة صباحا يفتش على المدرجات ويراقب بنفسه العمال وهم يقومون على نظافتها، وسمعته بأم أذني يلوم أحد المقصرين منهم قائلا: أبناؤنا معظمهم من الفقراء الذين يشترون ملابسهم بشق النفس وتعاني أجسامهم من آثار الأمراض والغبار فاتقوا الله فيهم.
نعم! كانوا شيوخا عظاما. يرحمهم الله.
- د. سعد مصلوح يكتب: من الحقيبة (4).. رِزْقٌ حَسَنٌ على غير احتساب - السبت _13 _مايو _2023AH 13-5-2023AD
- د. سعد مصلوح يكتب: من الحقيبة (3) {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا} - الأربعاء _19 _أبريل _2023AH 19-4-2023AD
- د. سعد مصلوح يكتب: من الحقيبة (2) - الأثنين _17 _أبريل _2023AH 17-4-2023AD