التقيت بعدد من الناس -لا أحصيهم- مرة أخرى بعد لقائي بهم أول مرة منذ سنوات طويلة، فوجدتهم على حالهم كما هم بعد كل تلك السنوات، لم يتقدموا في علم أو عمل ولا في دين او دنيا، وهؤلاء يعيشون إما في بلدان مستقرة أو غير مستقرة لا فرق، وقد كانوا في أعلى درجات الحنق والحزن والسخط بسبب عدم تحقيق ما يصبون إليه من أهداف وطموحات.
حاولت أن أحلل هذه الظاهرة،
وربما وجدت لها أسبابا كثيرة، إلا أن هناك سببا محددا كان عاملا مشتركا بين الجميع،
تستطيع تشخيصه بكل سهولة من خلال الجلوس معهم، او زيارة صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
هذا السبب هو الاستغراق الكامل في الشأن اليومي التفصيلي، والتفاعل مع كل خبر، والشكوى من سوء الأوضاع،
حتى لو كانت لا تمسه مباشرة، والتذمر والتسخط المستمر من تصريح هنا، وسرقة موظف هناك، ونشر لفيديوهات آخر الزمان،
واعتقاد راسخ بخراب الحياة وفسادها، وشد للأعصاب، وإدمان لنقل كل ما هو سيء،
مع آهات وحسرات حارة على عدم القدرة على تغيير كل هذه الأشياء.
تبدأ معه هذه الحالة منذ الصباح، مرورا بالنهار كله، لتتركه آخر الليل منهكا إنهاكا نفسيا، يتلوه إنهاك جسدي،
لتجعله شخصا عاطلا تحاصره الشكوى والتفاعل السلبي،
فلا إنتاج ولا فاعلية ولا إنجاز حتى في المجال الذي يستطيع أن ينتج وينجز فيه.
فهذا عاطل عن العمل جالس يندب زمانه لأنه لم يجد وظيفة حكومية، أو انه يستحق ما هو أفضل مما هو متاح.
وآخر ترك دراسته في الجامعة لان التعليم سيء في بلده أو أن من لم يدرسوا قد تسلموا مواقع متقدمة.
وثالث يتباكى ليل نهار على أوضاع اللاجئين دون أن يقوم بمبادرة تخفف عنهم.
ورابع ترك دعوة الناس للخير يأسا وقنوطا من استجابتهم.
ويزداد الأمر سوءا مع صحبة مثله في التفكير والسلوك.
نعم، إن جزءا من واجب المسلم أن يتفاعل ويهتم بما حوله من قضايا الأمة والشأن العام، لكن ليس لأجل أن يستغرق وينغمس فيها شاكيا ساخطا،
بل ليفهم واقعه ويتلمس المواطن التي يستطيع التأثير والتغيير فيها، ويدع ما سوى ذلك لغيره، فينتج وينجز ويقدم أقصى ما يستطيع لنفسه ولغيره.
وصيتي لك أيها المستغرق المضيع لوقته:
اطلع على ما يجري من أحداث ومجريات الشأن اليومي، لكن حدد ما تستطيع فعله لنفسك وغيرك،
وانظر لدائرة المتاح والممكن في حياتك، ودع الانشغال بما لا تستطيع فعل شيء له،
وأحسن الظن بربك، ولا تيأس من روح الله، واحرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز.
- د. سعد الكبيسي يكتب: هل عزف الناس عن التدين؟ - الجمعة _24 _مارس _2023AH 24-3-2023AD
- د. سعد الكبيسي يكتب: استغراق سيء - الأربعاء _15 _مارس _2023AH 15-3-2023AD
- د. سعد الكبيسي يكتب: مدافعة التفاهة - الجمعة _10 _مارس _2023AH 10-3-2023AD