في أحد أيام فصل الشتاء القارس، يوم إن كنت في الثامنة من العمر، كنت أنا ووالدي وإخوتي مُتحلّقين حول المدفأة، وإذ بالباب الخارجي لبيتنا يُدق..
فأمرني والدي بأن أقوم لأرى من على الباب، فاستجبت مسرعا فوجدت رجلا كبيرا في السن، ذا لحية بيضاء، يضع على رأسه عمامة، وفي يده عصا..
فقلت له: تفضّل بالدخول.
فأجابني بقوله: أين أبوك؟
فقـلت: إنه في الداخل. فقال: نادِه.. فناديت والدي فهبّ ليرى الشيخ ويأذن له بالدخول.
فدخل الرجل وبقي عندنا ثلاثة أيام متتاليات. وقد سمعت منه عجبا.
أهمها:
الله يساعد الفلسطينيين.. فإن أياما صعابا آتيتهم.. الله يساعدهم ويعينهم.
دعا على رجل من أبناء بلدتنا بسبب سخريته منه..
كان يضعني في حجره ويضمني إلى صدره، ويقرأ عليّ من القرآن..
فلما رأت أمي صنيعه معي قالت له: لماذا لا تقرأ على بقية أبنائي؟
فقال لها: لا.. فقط هذا..
ونظر إليّ ودعا لي ووضع يده على رأسي وتمتم..
وبعد أن انتهت أيام الضيافة، استأذن والدي بالرحيل.
فرفض والدي أن يرحل؛ بسبب تساقط الثلوج، وسيلان الأودية بالمياه، وكان هناك وادٍ تحت بيتنا يريد الشيخ الانتقال من خلاله إلى منطقة أخرى..
فأصرّ الشيخ على الرحيل.. فطلب والدي منه أن يأذن له باصطحابه حتى مجاوزة الوادي..
فرفض الشيخ وقال لوالدي: لا تخف عليّ.
تعلّق قلبي به وأحببته، ووقفت مع والدي في ساحة الدار لنرى كيف سيقطع الوادي المليء بالمياه.
وحين وصل قرب الوادي لم نعد نراه.
فنظر إليّ ولدي وسألني: هل ترى الشيخ؟
فقلت: لا والله. فصرخ وقال: يا الله! ربما جرفه الوادي؟ أنا طلبت منه أن اصطحبه فرفض.. لا حول ولا قوة إلا بالله.
ونحن نتساءل في ساحة الدار وإذ بشاب في العشرينيّات من العمر آتيا من المنطقة التي قصدها الشيخ. فسأله الوالد: هل رأيت في الوادي شيخا كبيرا؟
فأجابه الشاب: لا.. وما مواصفات هذا الشيخ؟ فوصفه له والدي..
فقال الشاب: لقد رأيته في المكان الفلاني.. وهذا المكان يبعد عن الوادي أكثر من كيلو متر؟
كيف قطع تلك المسافة في هذا الوقت وهو شيخ كبير.؟؟
ومرّت الأيام.. وإذ الشعب الفلسطيني تتوالى عليه النكبات حتى يومنا هذا.
وبالرجل الذي دعا عليه قد أُصيب بالفالج لمدة عشر سنوات..
أما أنا، فبعد خمس سنوات من زيارة الشيخ لنا، حدث شيء جعلني أتعلّق بالله تعلّقا صرت محل سخرية من أصدقائي الشباب يومها،
ثم أُصرّيت بعدها على دراسة الشريعة (وهذه لها حكاية طويلة ومُتعبة) لأني أريد أن أعرف ربي حقيقة من الكتاب والسُنة، وليس من خلال الحكايات والمنامات….
ليس من تفسير لهذا الرجل عندي إلا أنه الخضر صاحب موسى عليهما السلام. فقد ذهبت جماعة من أهل العلم إلى القول أنه ما زال حيّاً.
اللهم إن كان الخَضِر ما زال حيّاً فاجمعني به في حياتي!
فهذه أفضل أمنياتي في هذه الدنيا.
- د. خالد عبد القادر يكتب: القرضاوي كما عرفتُه «5» - الأحد _23 _أكتوبر _2022AH 23-10-2022AD
- د. خالد عبد القادر يكتب: القرضاوي كما عرفتُه«4» - الأربعاء _5 _أكتوبر _2022AH 5-10-2022AD
- د. خالد عبد القادر يكتب: القرضاوي كما عرفتُه«٣» - الأثنين _3 _أكتوبر _2022AH 3-10-2022AD