منذ فجر البشرية والتدافع قائم بين الحق والباطل والتداول بينهما سنة ماضية، قوة وضعفا ونهوضا وانحطاطا كما قال تعالى في كتابه الكريم (وتلك الأيام نداولها بين الناس) ولكن لعله لم يمر على البشرية عبر تاريخها الطويل طغيانا للباطل يشمل عموم الأرض ويؤسس لشرعية دولية بنظمها وتشريعاتها ومؤسساتها المختلفة بتوافق وقبول عالمي كما يحصل اليوم.
فالظالم والمظلوم والجلاد والضحية والمنتصر والمهزوم والقوي والضعيف يؤمنون بأن هذه شرعة دولية ونظام دولي والكل يسعى لنيل عضويته ويشعر بأنه لا يمكنه العمل خارج هذا السياق، ومن التناقضات الكبيرة جدا أن هذا النظام من حيث تركيبته و تأسيسه غير عادل من الأساس، وكثير من الأمم تقر بذلك، وأن هذا النظام العالمي نظام طغياني ظالم لأنه لم تشترك في صياغته وتكوينه كثير من أمم الأرض ومع ذلك ندعي بأنه نظام أممي، وهو في الحقيقة نظام يعبر عن المنتصرين في الحرب العالمية الثانية ويحفظ مصالحهم، لأنهم الذين هندسوا هذا النظام وبرمجوه بطريقة معينة يؤدي في نهاية المطاف لخدمتهم، وإذا بالجميع يندرج ضمن هذه المنظومة بالسعي في اكتساب عضوية الأمم المتحدة، وأصبح أقصى ما نسعى إليه وأقصى الأماني أن نكون جزءً من نظام هُندس و بُرمج ليس لصالح المظلومين ولا المقهورين ولا المُحتلين بل بُرمج و هُندس هذا النظام ليكون في خدمة المجموعة التي انتصرت في الحرب العالمية، فالمنظومة الدولية التي نتحدث عنها انتهت إلى أن يكون هنالك خمسة من الكبار يمثلون حالة دينية معينة، وهؤلاء الخمسة لهم الحق الكامل في ممارسة حق النقض الذي هو حق الاعتراض عندما تشعر دولة من الدول بأن مصلحتها تتعارض مع قرار يصدره المجتمع الدولي من حقها أن ترفع يدها وتمارس الفيتو وبالتالي تتعطل الإرادة الدولية بسبب دولة معينة تشعر بأن ليس من مصلحتها مرور هذا القرار، وفي نهاية المطاف سنجد أن هؤلاء الخمسة (باستثناء الصين) يمثلون الكنائس العالمية: الكنيسة الأرثوذكسية والبروتستانتية والكاثوليكية وبطبيعة الحال فإنه يمثل سطوة أممية وسطوة دينية لمجموعة عقائدية معينة من أهل الأرض، فإذا باشرت نوع من القمع والقتل والاستبداد فإن بقية الشعوب وبقية الأمم ستشعر بأنها استهدفت في خصوصياتها، وهنا نلاحظ بأن أكبر مجموعة يمكن أن تتناقض مع هذا النظام الدولي لخصوصياتها الحضارية والدينية والثقافية و اللغوية والعرقية هي الأمة المسلمة، رغم أن بقية الأمم ربما تعاطت مع هذا النظام التقاءً وافتراقا ولكنها قد لا تتعارض معه تعارضا كليا، ولكن بالنسبة لنا سنجد أن ثقافتنا وعقيدتنا وديننا ومنظومتنا الحضارية التي ننتسب إليها وطبيعة الرسالة التي أنيطت بأمة الإسلام وهي الرسالة الخاتمة، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ترضى بهذا النوع من الهيمنة والسطوة، فستجد أن الوجدان الداخلي لأمة الإسلام يقول لها بأنها أمة رسالة، وأنها تحمل مشروعا للعالمين، وهذا المشروع يجب أن يكون لكل الناس وليس للمسلمين وحدهم، وأن السيادة له وأن العزة للمؤمنين، فالوجدان الداخلي لكل من قرأ كتاب الله سبحانه وتعالى وتدبره يجد نفسه بطبيعة الحال متناقضا مع هذه المنظومة، وبالتالي عندما تتشكل هذه الحالة الوجدانية في مجموع الأمة وتتكاثر سوف تصطدم مع هذه المنظومة التي سمت نفسها بأنها منظومة دولية، وهنا تنشأ قضية تدافع الأمم الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم “تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل”.
تراجعت الأمة تراجعا كبيرا منذ قرن من الزمان أو أكثر رغم أن الأمة كانت رائدة وفي القمة، فالأمة القطب التي كانت تحكم المساحة الأكبر من هذه المعمورة، وتمثل الرسالة العالمية و الكتاب المعصوم، والمهيمن على كافة الرسالات السابقة وهو النور الذي تتطلع إليه البشرية كلها باعتباره النور المنزل من الله سبحانه وتعالى وهو الحياة وهو البشرى وهو الهدى، هذه الأمة تراجعت لتكون أمة تابعة، وهنا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يعبر بمفردة مهمة جدا وهي “غثاء” والغثائية تدل على أمرين:
الأمر الأول:
غياب البوصلة وفقدان الاتجاه، حيث إن الغثاء يتحرك دائما في اتجاه السيل فمساره و اتجاهه حيث ما سار السيل، وفيه دلالة التبعية وغياب التميز والاستقلال .
الأمر الثاني:
هو خفة الوزن وغياب التأثير والفاعلية مما يعني غياب الشهود الحضاري لأمة تعد من كبريات أمم الأرض، وبالتالي فإن أمة الإسلام فقدت سيادتها، ومع فقدان السيادة فقدت الشريعة، وفقدت الوحدة وفقدت التحكم في قدراتها وإمكاناتها، وفقدت كذلك التعاون و التعاطف فيما بينها، وفقدت مفهوم الولاية الشرعية وهي ولاية المؤمنين لبعضهم والتي تكتسب من ولاية المؤمنين لله سبحانه وتعالى، فالله هو الولي والمؤمنون هم الأولياء لبعضهم البعض ويتوالون على ذلك، ومن خلال موالاتهم لبعضهم البعض تنشأ الولاية السياسية، والولاية السياسية الجامعة للمؤمنين فُقدت عندما سقطت الخلافة تحت ضربات القوى الامبريالية وتأسيس ولاية سياسية جديدة أساسها البعد القومي والدولة القطرية ، تحت سيطرة النظام الدولي الذي يتحكم في المشهد العالمي (دول / حكومات / شعوب) .
وفي هذه الفترة انطلت علي الكثيرين خدعة الاستقلال، حيث بدأ المحتل يرتب لما بعد انسحابه وينسحب من بلداننا ، وفي ذات الوقت يرتب عملية الإحلال والإبدال لمن يحل مكان هذا المحتل، حيث رتب المنظومة الأمنية والعسكرية للدولة مانحا السلطة الوطنية للوكلاء من بعده، والسلطة الوطنية بنظامها العالمي الذي نحن فيه تمتلك أدوات القمع و القهر وأدوات السلطة ولكنها فاقدة للسيادة، بمعنى أنه في واقعنا المعاصر لا يمكن الحديث عن دولة وهي جزء من هذه المنظومة الدولية و خاضعة لهذا النظام الذي تحدثنا عنه بتركيبته المعقدة أن تكون هذه الدولة دولة ذات سيادة حقيقية.
ومن خلال النظم والقوانين الدولية وكليات القانون والحقوق كرسوا مفهوم أن السيادة أمر نسبي وليس مطلق، فإذا وجد شعب ما بأن سلطته فيها نوع من فقدان السيادة، وأن قرارها الرئيسي لدى واشنطن أو موسكو وشعر بفقدان السيادة، والإحساس بالعبودية عاد لمقولة السيادة نسبية وليست مطلقة مع أن المواطن الأمريكي أو الروسي لا يمكن أن يتعامل مع السيادة بمنطق النسبية، بل يرى السيادة شيء كامل بالنسبة له،لأنه ينظر إلى نفسه سيدا والسادة الخمس الكبار لا ينتابهم شعور في أي لحظة بأن السيادة أمر نسبي، فهذه النسبية لإقناع الشعوب المقهورة وبالتالي الخطورة فيها أنك تتقبل كل ما يقع عليك من قمع واحتلال وسيطرة على الموارد بارتياح دون شعور بالقلق مادام السيادة أمر نسبي، وهكذا نشأت عندنا أنظمة سلطوية قامعة لشعوبها، لا تعبر بحال عن رغبات الشعوب وتطلعاتها ولا تعبر عن سيادة هذه الأمة، ثم إن هذه الأنظمة تابعة و ليست سيدة، إذا تهددت هذه الأنظمة وشعرت بالخطر من شعوبها استعانت بالسيد ونكون بالتالي أمام السيد مباشرة وليس أمام السلطة الوظيفية العاجزة.
عندما تفجرت الثورة العربية كانت محاولة لإظهار التململ وعدم الرضا وإظهار نوع من السخط عن هذا الواقع الأليم الذي فيه تبعية واستبداد و قهر وانتهاك للكرامة الإنسانية، وفيه كل ما يمكن تصوره من الأشياء السيئة التي تناقض تماما المعاني الإنسانية السامية، وخرجت الشعوب للشوارع معلنة الثورة على الحكومات المحلية الاستبدادية ولكن اكتشفت الشعوب أن مواجهتها ليست مع الأنظمة الداخلية فقط بل مع المنظومة الدولية بالكامل وكان من حسنات الثورة كشف المستور وتعرية الأنظمة التي ليس لها من الأمر شي وهو من نعم الله على العباد كما قال تعالى”ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب”
علينا أن ندرك بأن ثوراتنا ليست ثورات شعوب محلية معزولة عن بعضها بحيث يمكن لكل ثورة أن تحسم ملفها لحالها بل هناك ترابط كامل، وعلى كل ثورة أن تحافظ على فاعلية ثورتها لتعزيز رصيفاتها من الأقطار الأخرى حتى تدخل الأمة بمجموعها في الموجة الثورية ومشروع التحرر الشامل للأمة، والثورات نجحت في نقل الحالة الجهادية و الثورية المقاومة للنظام الدولي من الحالة الفصائلية التي عبر عنها في فترة من الفترات بعض التنظيمات الجهادية إلى أن دخل عامل الشعوب ولازلنا بحاجة ماسة لتدخل الأمة بمجموعها، وليس مجموع الأمة العالم العربي فقط وإن كان يمثل قلب هذه الأمة من حيث الجغرافيا السياسية والأبعاد الإستراتيجية والحضارية والثقافية ومن حيث الإمكانات والموارد لكن في نهاية المطاف علينا أن ندرك أن التغيير المنشود أكبر من التحرك في خمس أو ست دول ثورية.
ثورة الأمة قد تبدأ بحراك شعبي هنا و هناك، وتدخل الشعوب والدول كافة في هذا الحراك، و نهاية المطاف فإن الحسم مع المنظومة الدولية لن يكون عبر دولة أو أقطار محدودة بل سيكون بالحالة الإسلامية الجامعة، ونحن نلاحظ أن الدولة الوحيدة في العالم الإسلامي التي تتكلم قيادتها عن قضية إعادة المنظومة الدولية هي تركيا وهذه الحالة يجب أن تتحول إلى حالة أممية جامعة وقادرة على التغيير، و يجب أن تدرك كافة قوانا الشعبية والحزبية أننا فعلا أمام مشروع عالمي يستهدف وجودنا الحضاري وعلينا مواجهته بكامل مؤسساتنا، حتى نعيد التوازن الدولي ونعيد أمتنا لدورها الريادي، وفي نهاية المطاف نحن موعودون بإذن الله سبحانه وتعالى بأن العالم مهيأ فعلا للنظام العالمي الذي سينتهي بسيادة حاكمية الإسلام (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) والظهور على الدين كله لا بد أن يكون ظهورا على الأمم كلها، ولا يكون ذلك إلا بأن تستنهض الأمة طاقاتها وتحقق فاعليتها ويعود الكتاب الحاكم والخاتم هاديا للبشرية كلها باعتباره رسالة الله لكافة أهل الأرض.
الأمة الإسلامية أمام ثورة واستحقاق وهذا الاستحقاق يجب أن يؤدي بنا إلى تحرير هذه الأمة، ومن المعروف أن الحرية لها ثمن، فأوروبا مثلا دفعت ما يقارب الثلث من سكانها في سبيل استرداد حريتها من هتلر، رغم أن هتلر نصراني وينتسب إلى نفس المنظومة والخارطة الجغرافية ورغم ذلك لم يرضوا به ديكتاتورا يقمع الشعوب الأوروبية، فاستحقاق الحرية والتحرير والخروج من التبعية والنفوذ الأجنبي يستحق منا تضحيات كبيرة جدا، ولكن هناك من الشعوب من سيدفع أكثر حتى يتحرك الجميع ، في ظل التساند بين القوى الإقليمية و الدولية.
والله من وراء القصد
- د. حسن سلمان يكتب: أوهام العقل - الأحد _30 _أبريل _2023AH 30-4-2023AD
- د. حسن سلمان يكتب: ولا تلبسوا الحق بالباطل: - الجمعة _17 _فبراير _2023AH 17-2-2023AD
- د. حسن سلمان يكتب: ولا تلبسوا الحق بالباطل - الأربعاء _25 _يناير _2023AH 25-1-2023AD