انقضى شهر رمضان المبارك وفرح الصائمون بجوائز الرحمن، فرحوا بفطرهم بعد تمام صومهم، وسيفرحون بلقاء ربهم بعد أن جعلوا أيامهم كلها عامرة بالطاعة، وقضوا أعمارهم في العبادة بمعناها الشامل لكل خير ولكل عمل صالح، انقضى شهر الجهاد في سبيل الله لكن لم ينتهِ الجهاد بانقضائه، ولم ينتهِ جهاد أبناء شعبنا المرابط في مدينة القدس المحتلة ولا في غزة الصامدة التي لبت نداء الاستغاثة استجابة لأمر الله تعالى القائل {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} الأنفال 72، بل شمل فلسطين كلها من النهر إلى البحر، فكانت أبلغ رسالة بأن عمليات التطبيع التي استمرت عقوداً من الزمان باءت بالفشل ولم تنجح في غسل أدمغة أبناء شعبنا أو ثنيهم عن قضيتهم، وكانت النتيجة تعرض غزة الصامدة لحرب إبادة صهيونية مدعومة من الإدارة الأمريكية وحليفاتها من الدول الغربية المنحازة لقوى البغي والظلم، حرب فتاكة تستهدف المدنيين العزل بعد عجز الاحتلال عن مواجهة المقاومة الباسلة، ونؤكد للعالم كله أن جهادنا بكل وسائله المشروعة لن ينتهي ولن يتوقف حتى نحقق أمانينا بتحرير وطننا من دنس الاحتلال الغاشم، وبنيل الحرية والاستقلال وإقامة دولتنا على كامل التراب الفلسطيني، فهذه ثوابت قضيتنا العادلة التي سقط لأجلها مئات الآلف من الشهداء والجرحى والأسرى مجاهدين في سبيل ربهم ودينهم ومقدساتهم وأرضهم المقدسة التي بارك الله فيها.
إن السعادة الحقيقية للمؤمن تكمن في مواصلته عبادة الله تعالى وطاعته، وفي مواظبته على الأعمال الصالحة في شهر رمضان وفي غيره، فمن يعبد رمضان فإن رمضان أيام معدودة سرعان ما تنقضي، ومن يعبد الله فإنه رب الشهور كلها وينبغي أن يُعْبَدَ فيها كلها، فعبادته واجبة لا تنتهي إلا بانتهاء الحياة، وموصول بعضها ببعض:
1- فعبادة الصوم في رمضان موصولة بصيام ستة أيام من شهر شوال، قال صلى الله عليه وسلم {من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر} رواه مسلم، وتفسير ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم {من صام رمضان فشهر بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بعد الفطر فذلك تمام صيام السنة} رواه أحمد، ومرجع ذلك إلى أن الحسنة بعشر أمثالها، ويستحب صومها لكل مسلم متتابعة أم متفرقة , سواء اعتاد صيامها أم لم يعتد، وسواء صام رمضان أم لم يصمه كمن أفطر لمرض أو غيره.
وهي موصولة أيضاً بقضاء رمضان، فمن أفطر أياماً منه قضى عدتها , وإن فاته صوم رمضان كله قضاه جميعاً، لقوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} البقرة 184، ويرى معظم العلماء أن قضاء رمضان لا يجب على الفور، فقوله تعالى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مطلق في قضاء الصوم وليس فيه تعيين أن يقضى متفرقاً أو متتابعاً، وليس فيه أمر بالقضاء على الفور أو على التراخي، فلا وجه للإلزام بأيٍّ من ذلك، لكنهم قيدوه بما إذا لم يفت وقت قضائه بدخول رمضان القادم , لقول عائشة رضي الله عنها {كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان} رواه البخاري، فقد كانت دائمة الانشغال بشؤون الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن لم يقض المسلم ما عليه حتى فات وقت القضاء من غير عذر فهو آثم، وكل ذلك يعني أن وقت القضاء موسع يستمر أحد عشر شهراً.
لكنني أرى أن تأخير أيام القضاء هو خلاف للأولى، فمن المستحب المسارعة إلى إسقاط الفرض والواجب، لذا أميل إلى أفضلية القضاء عقب العيد مبادرة إلى العبادة لما في التأخير من سلبيات. فالأصل المبادرة إلى قضاء الفوائت من صوم وصلاة , ومن أخر قضاء رمضان لعذر فانقضى أجله فلا شيء عليه، أما إن أخره لغير عذر فإنه يأثم بذلك، وعلى ذلك فالقضاء في رأيي أولى من صوم الستة من شوال , لأن في الشهر متسع لأدائها، ثم إن فقهاء الحنفية يحرمون على المسلم أن يتطوع بالصوم قبل قضاء ما عليه من رمضان , بل يبدأ بالفرض حتى يقضيه.
والصوم أيضاً مندوب أيام: الإثنين والخميس من كل أسبوع، والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر قمري، والتسع الأوائل من شهر ذي الحجة وآكدها وأعظمها يوم عرفة، ثم يوم عاشوراء العاشر.
2- والتعبد في شهر رمضان بمناجاة الله تعالى وتلاوة كتابه يمكن أن يوصل بعد رمضان بالاستمرار في تلاوة آياته آناء الليل وأطراف النهار، فقراءته في الصلاة ركن تبطل بدونه قال تعالى {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} الإسراء 78، وأقله قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة، أما قراءته في غير الصلاة فهي من العبادات المندوبة التي تقرب المؤمن من ربه عز وجلّ، فيستحب الإكثار من تلاوته، قال صلى الله عليه وسلم {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} رواه مسلم، فلنحرص على تلاوته، فهذه العبادة تمنح المسلم رصيداً متزايداً من الثواب، ومعيناً لا ينضب من الحسنات، فقراءة الحرف الواحد بعشر حسنات، قال صلى الله عليه وسلم {من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف} رواه الترمذي.
3- وإذا كان شهر رمضان يختص بالقيام وهو صلاة التراويح، فقيام الليل في غيره عبادة لا تنقطع، قال صلى الله عليه وسلم {عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وإن قيام الليل قربة إلى الله ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد} رواه الترمذي، فقيام الليل هو الصلاة ليلاً قبل النوم، ومن ثماره أنه يربي إرادة المؤمن على تحمل المسؤوليات العظام، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم هيأه ربه بقيام الليل لحمل أعباء الرسالة، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} المزمل 1-5.
ويمكن للمؤمن أن يتهجد أيضاً لقوله تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} الإسراء 79، والتهجد يكون بالصلاة ليلاً بعد الاستيقاظ من النوم، فقد وصف الله عز وجل عباده المتهجدين بقوله تعالى {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون} الذاريات 15-18.
4- وصلة الأرحام لا تختص برمضان وحده، بل هي مقارنة للعمر كله، وابتداء صلة الرحم بفعل المعروف مع الأقارب يعتبر سنة، أما قطعه عنهم بعد حصوله فيعد ذنباً كبيراً، وتكون القطيعة بهجرانهم أو بالإساءة إليهم أو تعدي ذلك إلى ترك الإحسان إليهم، فإذا قطع المؤمن عن قريبه ما اعتاده من الصلة والرعاية لغير عذر شرعي يصدق عليه أنه قطع رحمه {فإن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى يا رب قال فهو لك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرأوا إن شئتم {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم (محمد 22)} رواه البخاري، وقد توعد الله قاطع الرحم، فقال صلى الله عليه وسلم {لا يدخل الجنة قاطع} رواه البخاري، وقاطع هو قاطع الرحم، وصلة الأرحام تعمق المودة والمحبة في النفوس، وهي من العلاقات الواجبة في المجتمع الإسلامي؛ ومما يميزه عن غيره من المجتمعات في الماضي والحاضر.
واستكمالاً لمعاني الصلة فحق الأقارب والأصدقاء والجيران وأسر الشهداء والأسرى والجرحى أن نزورهم ونتفقدهم ونسعى عليهم ما استطعنا، وألاَّ ننسى الأرامل والثكالى واليتامى والمساكين، قال صلى الله عليه وسلم {الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار} رواه البخاري، وإن كان هؤلاء أحوج ما يكونون إلى ذلك في رمضان وفي أيام العيد، فإنهم ينتظرون هذه الصلة أيضاً بقية العام.
5- ولنواظب على الصدقات، فالصدقة دليل على صحة إيمان العبد وبرهان على صدقه وقوة يقينه وحسن ظنه بربه، وهي من أحب الطاعات إلى الله، قال صلى الله عليه وسلم {إن أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن، تكشف عنه كرباً أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً} رواه البيهقي وحسنه الألباني، والصدقة سبب في غفران الذنوب والخطايا ومحو السيئات، قال صلى الله عليه وسلم {الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار} رواه الترمذي، فبذل المال لمن يستحقه إن ارتبط بنية التقرب إلى الله تعالى فهو صدقة مندوبة لأن فيها نفعاً للفقير وعوناً للضعيف وإغاثة للملهوف؛ ومساعدة للعاجز وتقوية له على أداء فرائض الله تعالى بتأمين حاجاته وحفظ حياته.
6- وعبادة الاعتكاف موصولة بارتياد المساجد، فالمكث فيها بنية العبادة اعتكاف وعمل صالح، فمن تعلق قلبه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه استحق ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، قال صلى الله عليه وسلم {سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل… ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه} رواه مسلم، وفي الحديث إشارة إلى شدة تعلق قلب المؤمن بالمسجد وحبه الجلوس فيه، والتردد إليه في جميع أوقات الصلاة بحيث لا يصلي صلاة إلا في المسجد، ولا يخرج منه إلا وهو ينتظر صلاة أخرى ليعود فيصليها فيه، فهو ملازم للمسجد بقلبه لا بجسده فقط، قال تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا َتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ} النور 36-37، وعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن {انتظار الصلاة بعد الصلاة هو الرباط} رواه مسلم، فالجالس في المسجد ينتظر الصلاة كالقائم على الثغور لصد العدو عن أرض الإسلام.
7- وتميز شهر رمضان المبارك على طول التاريخ الإسلامي الزاهر بأنه شهر الانتصارات والفتوحات لأنه شهر الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام، وهذه العبادة العظيمة موصولة طيلة العام بالتضحية في سبيل الله بالنفس والمال والكلمة، قال تعالى {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} التوبة 41، فالجهاد باق ومستمر إلى يوم القيامة لا يتوقف لأنه عبادة أبدية لقوله صلى الله عليه وسلم {الجهاد ماض إلى يوم القيامة} وفي الرواية الأخرى {ثلاثة من أصل الإيمان.. والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل}، ومن صور الجهاد بالكلمة الدعاء للمجاهدين ومناصرتهم والثناء عليهم والذب عنهم في مواجهة المرجفين والمنتقصين من دورهم وتضحياتهم.
- د. تيسير التميمي يكتب: الصبر في المحن والشدائد - الأربعاء _14 _ديسمبر _2022AH 14-12-2022AD
- د. تيسير التميمي يكتب: جهود الإمام البخاري في تدوين وتدقيق السنة النبوية - الأربعاء _15 _يونيو _2022AH 15-6-2022AD
- د. تيسير التميمي يكتب: تدوين السنة المشرفة في العهد النبوي - الأحد _5 _يونيو _2022AH 5-6-2022AD