- د. تيسير التميمي يكتب: المطلوب في مواجهة الهجمة على الإسلام - الخميس _11 _فبراير _2021AH 11-2-2021AD
- د. تيسير التميمي يكتب: الدوافع الحقيقية وراء الإساءات إلى الإسلام والرسول - الأربعاء _27 _يناير _2021AH 27-1-2021AD
- د. تيسير التميمي يكتب: جوانب إنسانية من حياة الرسول الأعظم - الثلاثاء _19 _يناير _2021AH 19-1-2021AD
ها قد أظلنا شهر رمضان المبارك، أظلنا في ظروف صعبة وعصيبة على الأمة كلها، وعلى الشعب الفلسطيني الصابر المصابر المرابط في أرضه، تتوالى عليه النكبات قديماً وحديثاً؛ تستهدف قضيته وعَوْدَتَه ، ولكنها أبداً لا تنال من عقيدته أو من عزيمته، فمهما عظمت منه التضحيات وارتقت من أبنائه كواكب الشهداء؛ إلا أنه مستمر في مقاومته المشروعة حتى إقامة دولته وتحرير عاصمته وتطهير ترابها المبارك من دنس الاحتلال الزائل.
أظلنا الشهر الفضيل الذي ارتبط في تاريخ الأمة بالجهاد والفتوحات، شهر الانتصارات التي كانت ثمرة الإيمان الراسخ بدين الله تعالى والتمسك بشرعه وشريعته، وثمرة الحفاظ على مبادئه وثوابته.
فأول الجهاد كان غزوة بدر الأولى في رمضان من السنة الأولى للهجرة، وهي سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه المسماة سيف البحر، أما أول انتصارات الأمة وأول مواجهة حقيقية بين المسلمين ومشركي قريش فكانت في غزوة بدر الكبرى، يوم الفرقان الذي فرّق الله سبحانه فيه بين الحق والباطل، يوم الجمعة 17 رمضان 2هـ؛ حيث انتصر المسلمون نصراً عظيماً مؤزراً أذهل قريشاً وأنذر بسقوط أسطورتها، قال تعالى {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} آل عمران 123 .
وبعـد ستة أعــوام من بدر سقطت فعلاً أسطورة قريش، كان ذلك يوم فتح مكة ، فبعد أن نكثت قريش العهد ونقضت الصلح الذي أبرمته في الحديبية مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ كان لا بد من معاقبتها وتأديبها والرد على غدرها، فخرج صلى الله عليه وسلم بعشرة آلاف جندي من المسلمين إلى مكة المكرمة، فدخلوها منتصرين في 20 رمضان 8 هـ دون أية مقاومة، دخلوها فاتحين بعد تهجيرهم منها ظلماً وعدواناً قبل ثماني سنوات، كان هذا اللقاء الأخير والفيصل مع قريش التي كان العرب جُلُّهُم يحسبون لها ألف حساب ، وطهَّر بيت الله الحرام من الأصنام ، ورفع بلال من فوق الكعبة نداء الحق الله أكبر، قال تعالى {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} النصر 1-3 .
وكما كان فتح مكة في رمضان سلمياً وبهذه السرعة الخاطفة والنتيجة الباهرة ودون أن تراق قطرة دم واحدة فهناك فتح مماثل له بعد سبع سنوات، إنه فتح بيت المقدس في رمضان بل في التاريخ ذاته: 20 رمضان 15 هـ، فتجلت فيه أخلاق المسلمين في الحرب؛ حيث اشترط بطرقها صفرونيوس تسليمها لخليفة المسلمين، فخرج الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنفسه لاستلامها ولم يخرج لمدينة سواها، استلمها عمر ومنح أهلها العهدة العمرية التي صانت دماءهم وأموالهم وأعراضهم وصلبانهم، ومنع اليهود مساكنتهم فيها بناء على طلبهم، وما زال هذا العهد إلى اليوم يحكم علاقة المسلمين والمسيحيين في هذه الأرض المباركة.
وقبل فتح مدينة القدس بعامين كانت معركة البُوَيْب (على نهر الفرات) التي لا تُنسى، وهي حدث في منتهى الأهمية وموقعة من أشد المواقع التي خاضها المسلمون عبر تاريخهم الطويل، ففي 12 رمضان عام 13هـ استطاع جيش المسلمين المكون من ثمانية آلاف جندي فقط بقيادة المثنى بن حارثة أن يوقع بالجيش الفارسي المكون من أكثر من مائة وخمسين ألف جندي هزيمة مروعة في عقر دارهم ، فقد قتل منهم في هذه المعركة ما يقارب المائة ألف، إنها نتيجة خيالية مذهلة لا تصدق لولا أنها وقعت فعلاً وسجلت كتب التاريخ أحداثها، وقد لا نجد لها تفسيراً إلا قوله تعالى {… فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ …} الأنفال 17 ، فقد ثبت المسلمون يومها ثباتاً عجباً وأبلوا هم وقائدهم بلاء حسناً.
وتعتبر معركة القادسية -على ضفة نهر الفرات- أيضاً من أبرز المعارك التي انتصر فيها المسلمون على الفرس في شهر رمضان المبارك انتصاراً مؤزراً بقيادة الصحابي سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه ، بدأت أحداثها في شهر شعبان من عام 16 هـ واستمرت إلى رمضان، وكان قائد الفرس رستم الذي فرَّ في نهاية المعركة من ميدان القتال على الرغم من عظم جيشه الذي زاد عن مائة وعشرين ألف جندي مقابل عشرة آلاف من المسلمين. وتأتي أهمية موقعة القادسية أنها غيّرت مسار التاريخ؛ فقد هزم المسلمون القوة التي كانت حتى ذلك الوقت تهيمن هيمنة كاملة على الشرق، ثم استطاعوا فيما بعد إنهاء الإمبراطورية الفارسية وسيطرتها على تلك المناطق الهامة من العالم.
وفي 28 رمضان سنة 92هـ نشبت معركة شذونة أو (وادي لكَّة) بين المسلمين بقيادة طارق بن زياد والقوط بقيادة لذريق، معركة هائلة في عقر دار الإسبان استمرت ثمانية أيام وكان النصر فيها للمسلمين على الرغم من الفرق الهائل بين الجيشين في العدد والعدة، فهي معجزة عسكرية بكل المقاييس غيرت وجه التاريخ في تلك المنطقة وفي شمال إفريقيا لفترة طويلة جداً، وقد أسهم هذا النصر في فتح الأندلس ودخول الإسلام إليها وضمها إلى الدولة الإسلامية وبقائها كذلك على مدى ثمانية قرون.
ومن أعظم الفتوحات الإسلامية الرمضانية فتح عمورية، فقد صرخت امرأة مسلمة فيها أهينت ونزع حجابها على يد أحد جنود الرومان “وامعتصماه! فحركت هذه الاستغاثة نخوة الخليفة العباسي المعتصم بالله ، فلبى نداءها وانتصر لكرامتها بجيش ضخم من مائة وخمسين ألف جندي إلى مدينتها، وفتحها يوم 17 رمضان 223هـ بعد أن أقسم قبل مغادرة قصره ألا يعود إليه إلا شهيداً محمولاً على الأعناق أو ظافراً منتقماً للمدينة المنكوبة والمرأة الحرة المغصوبة.
ومعركة عين جالوت -في فلسطين أرض الإسراء والمعراج أرض الطائفة المنصورة بإذن الله- هذه المعركة الفاصلة التي قادها سيف الدين قطز هزت الأرض وأنقذت الإسلام والمسلمين وغيرت موازين القوى في ذلك الزمان، وقعت أحداثها في يوم الجمعة في 25 رمضان 658 هـ، فانتصر المسلمون فيها نصراً هائلاً على جحافل التتار الذين ارتكبوا أبشع المذابح ضد سكان كل المدن الإسلامية وغير الإسلامية التي اجتاحوها، لقد أوقف هذا النصر الهائل الزحف الخاطف لإمبراطورية المغول التي سيطرت على معظم بقاع الأرض في أربعين عاماً ودمرت حضاراتها، انتصر جيش المسلمين بعدما لم يكن يظن أحد في تلك الأيام أنه ستقوم للإسلام قائمة؛ حيث وصل أهله وحكامه المقتتلون فيما بينهم أدنى درجات الضعف والذل والهوان، وتوالت عليهم الهزائم المريرة المتلاحقة لممالكهم ودولهم ومدنهم التي سقطت تباعاً بيد المغول بسهولة، انتصر جيش المسلمين على جيش التتار بأعداده الهائلة وبقيادة كاتوبغا الذي قتل في المعركة وأبيد جيشه بالكامل ولم ينجُ منه أحد.
جاء هذا النصر الرمضاني تتويجاً لجهود القادة العظماء المخلصين في إيقاظ الأمة من غفلتها وجمعها تحت قيادة واحدة، فأنقذ حضارتها من الضياع والانهيار، وأنقذ الإنسانية من شرور التتار وقادتهم هولاكو وجنكيز خان الذين أسقطوا الخلافة العباسية وخربوا الدولة الإسلامية واستباحوا بيضة المسلمين وشردوهم، وقتَّلوا وخرّبوا ودمروا كل شيء في حملات همجية ضد البشرية جمعاء.
هذا غيض من فيض ، فانتصارات المسلمين في رمضان كثيرة عديدة لا حصر لها حتى في التاريخ الحديث والزمان المعاصر، حاولت أن أعرض منها ما يظن القارئ أنه نصر خيالي وغير واقعي، وما ذاك إلا لنأخذ العبرة بأن القوي لا يبقى قوياً إلى الأبد، والضعيف لا يبقى ضعيفاً إلى الأبد، فالأمة تستطيع النهوض لو أرادت، لو عزمت، لو قررت.
لكن الأمة في هذا الزمان لم تعد كما كانت، فها هي تشهد في غزة العدوان الغاشم الانتقامي عليها وعلى أبنائها التائقين للعودة إلى بيوتهم وأراضيهم ومدنهم وقراهم، هاهي تتجاهل ما قامت به أمريكا في مدينة القدس فقضت بنفسها على الشرعية الدولية، ها هم العرب يراقبون همجية العدو الظالم في استهدافه أبناءنا المدنيين العزّل ويرون دماءهم الزكية تروي الأرض المباركة فلا تتحرك فيهم النخوة ولا يلبون نداءات الاستغاثة.
لكننا نوقن بأن أمتنا لا تموت، وسيولد فيها القائد الذي سيدحر الاحتلال ويهزمه شر هزيمة، وسيتحقق النصر لشعبنا وقضيته العادلة، فنحن أصحاب حق وندافع عن أرض الإسراء والمعراج، هذا وعد الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه (لا تزالُ طائفةٌ من أُمَّتي على الدِّين ظاهرين لعدوِّهم قاهرين، لا يضرُّهم من خالفهم إلا ما أصابَهم مِن لأواء حتى يأتِيَهُم أمر الله وهم كذلك، قالوا يا رسول الله وأين هُم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس) رواه أحمد
وكما أن رمضان شهر الانتصارات وعز الحق والدين فهو أيضاً موسم للدعاء بالنصر والتمكين للمسلمين، وبرفع البلاء والكرب عن أبناء شعبنا وبرحيل المحتل الغاصب عن أرضنا المباركة، وبحفظ أهلنا الصامدين في غزة، وبالتفريج عن أسرانا الصناديد الأبطال، فإننا لا ينبغي لنا أن نستهين بالدعاء فهو سلاح عظيم ننصر به إخواننا إن عجزنا عن نصرتهم بالقوة والسلاح، قال تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} البقرة 186 .