لم يكن الرسول، صلى الله عليه وسلم، بطلاً من أبطال التاريخ، ولا أسطورة أو رسماً من نسج الخيال، بل كان حقيقة حية عاشت تحت ضوء الشمس وفي وضح النهار وعلى مرأى ومسمع من الناس، وكانت سيرته النبوية المشرفة أَمْثَلَ صورِ التطبيق الأرضي لشريعة السماء، فترجم قواعدها ومبادئها وتعاليمها من نصوص مسطورة إلى وقائع منظورة، وحوَّلَ أرباب الجاهلية إلى أرقى النماذج البشرية، فأثبت بالدليل القاطع أن الله سبحانه أنزل الشريعة ليلتزمها البشر، وكان خير قدوة لهم في كل الميادين والمحالات:
* فكان رب الأسرة الرفيق بها البعيد عن العنف، قالت عائشة رضي الله عنها {ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله} رواه مسلم.
* وكان الابن الوفي لذكرى أمه {فقد زار قبرها فبكى وأبكى من حوله} رواه مسلم، ولذكرى مرضعته التي {أقبلت يوماً حتى دنت إليه فبسط لها رداءه فجلست عليه، فقيل من هي؟ فقالوا هذه أمه التي أرضعته} رواه أبو داود.
* وكان الزوج المخلص، ظل يذكر خديجة طيلة حياته ويكرم صويحباتها، قالت عائشة رضي الله عنها {كان صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء… قال: قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء} رواه أحمد.
* وكان هو النبي الهادي الذي أرسله الله بشيراً بدين الحق وعقيدة التوحيد، فبيّن لهم أحكامه وفصل قواعده، فكانت سنته وسيلتهم إلى فهم كتاب الله، وسيرته ترجماناً وتطبيقاً لمبادئه، كان المعلم الذي وجه الناس وأرشدهم، وهذب نفوسهم وصاغ شخصياتهم فجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وهو المربي الذي أحسن التعامل معهم فاكتسب مودتهم وتألف قلوبهم حتى أحبوه أكثر من أنفسهم، وعلمهم التزام الآداب والتحلي بالذوق الرفيع، تمتع بروح الدعابة وطلاقة الوجه في حدود الاتزان بعيداً عن التجريح، ودعا إلى تجنب العزلة والخمول فشجع العمل الإيجابي وتحمل المسؤولية.
* وكان الحاكم الذي حدد ملامح السياسة الداخلية بصياغة ميثاق المدينة ودستورها الذي تضمن المؤاخاة بين المؤمنين والموادعة لليهود، وتضمن أيضاً تفاصيل العلاقات بين المواطنين وتحمّل الدولة مسؤولية الضمان الاجتماعي وتأمين الحقوق العامة للأفراد، وكان الزعيم الذي حدد معالم السياسة الخارجية ونظم العلاقات الدبلوماسية، فاستقبل وفود الدول الراغبة بإقامة علاقات معه وأرسل رسله إليها وعقد معهم المعاهدات.
* وكان هو القائد العسكري الأول الذي يبعث السرايا ويدرب الجيش النظامي، ويشارك المؤمنين جهادهم في سبيل الله قتالاً وتخطيطاً وأخذاً بأسباب النصر وعوامل القوة، لم يرغب بنفسه يوماً عن أنفسهم فكان دوماً معهم في الميدان فأصيب في نفسه وأهل بيته كما أصيبوا.
* وهو القاضي الذي يفصل في الخصومات، ويضع دعائم النظام القضائي وأصول المحاكمات كقواعد الادعاء والبيّنات
* وكان الأب الحاني على أولاده {دخل على ابنه إبراهيم وهو يحتضر فجعلت عيناه تذرفان… ثم قال: إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون} رواه البخاري، وكم جعل من ظهره مطية لأحفاده {فكان يصلي وهو حامل أمامة بنت ابنته زينب فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها} رواه البخاري، وكان {إذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا رفع رأسه أخذهما بيده من خلفه أخذاً رفيقاً ويضعهما على الأرض فإذا عاد عادا حتى إذا قضى صلاته أقعدهما على فخذيه} رواه أحمد.
كانت علاقته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين تماثل علاقة الأب بأفراد أسرته، فاستطاع أن يكتسب ثقتهم وقلوبهم بالصفح والتسامح من جهة، وبالرعاية والإشفاق من جهة أخرى، ومن جهة ثالثة كان عظيم الفهم للنفس الإنسانية وما يختلج فيها من مشاعر وحاجات ومن خوف وضعف، فكان حكمه على الإنسان شمولياً منصفاً، فلا يغفل حميد صفاته ولا يركز على إظهار زلاته، فمثلاً هذا الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة: في لحظة ضعف منه كتب إلى قريش يخبرها نية الرسول فتح مكة ليسدي معروفاً إليها علها تحمي أقاربه في مكة، فلما انكشف أمره أراد عمر بن الخطاب قتله، فقال صلى الله عليه وسلم له {إنه قد شهد بدراً يا عمر وما يدريك لعل الله اطَّلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} رواه البخاري.
هذا مثال الصفح والغفران، وأما الرعاية والإشفاق من الأب الحاني فأمثلتها عديدة منها مثلاً أنه لما استشهد قادة مؤتة ومنهم جعفر بن أبي طالب {أتى صلى الله عليه وسلم آل جعفر فقال لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ثم قال ادعوا لي بني أخي، فجيء بهم كأنهم أفرخ فقال: ادعوا لي الحلاق، فأمره فحلق رؤوسهم} رواه أبو داود. ثم قال صلى الله عليه وسلم مداعباً الصغار {أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي، ثم أخذ بيد عبد الله وقال اللهم اخلف جعفراً في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه قالها ثلاث مرات} رواه أحمد، وجاءت أمهم فذكرت له يتمهم وجعلت تثير حزنه عليهم فقال {العَيْلَةَ تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة؟} رواه أحمد، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل على آل جعفر دعا أبناءه فجعل يتشمّمهم ويضمّهم وعيناه تذرفان بالدمع، وقال عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما {أنا أحفظ حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمي فنعى لها أبي، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي وعيناه تهريقان الدموع حتى تقطر لحيته، ثم قال اللهم إن جعفراً قدم إلى أحسن الثواب، فاخلفه في ذريته أحسن ما خلفت أحداً من عبادك الصالحين في ذريته}.
لم تقف علاقة الرعاية هذه عند ذوي قرابته بل تناولت الأمة جميعاً، قال صلى الله عليه وسلم {ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فأيما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك ديناً أو ضِياعاً فليأتني فأنا مولاه} رواه البخاري والضِّياع هم الصغار، والآية في سورة الأحزاب.
وللطفولة عند الرسول صلى الله عليه وسلم عناية ورعاية {فقد قبل الحسن بن علي يوماً وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم ثم قال: من لا يرحم لا يرحم} رواه البخاري، وقال خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه {أرسلني صلى الله عليه وسلم يوماً لحاجة فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال يا أنس اذهب حيث أمرتك، قلت نعم أنا أذهب يا رسول الله} رواه أبو داود، وقال أنس أيضاً {خدمتُ النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أُفَّاً قط ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا} رواه البخاري.
وتجيش عاطفته الحارّة عند موت العزيز على نفسه وقلبه عمه حمزة رضي الله عنه لما رجع من غزوة أحد، فقد جعلت نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن، فقال صلى الله عليه وسلم {… ولكن حمزة لا بواكي له…} رواه أحمد، وإنما قال ذلك مشفقاً عليه لكثرة حبه له، فحمزة رضي الله عنه ليس له كثير قرابة في المدينة المنورة لأنهم لم يهاجروا بعد.
أولاً وأخيراً هو إنسان، له مشاعر ترتقي لتبلغ القمة التي ليس وراءها إلاَّ النور الذي ينير الكون حتى ينفذ إلى قلوب الكائنات، وله رحمة رءوفة تتجاوز انحياز الإنسان لنفسه واعتداده بجنسه حتى تعم الكون لتصل أعماق الكائنات، وله أحاسيس رهيفة وجهت الناس إلى الجامعة الإنسانية الشاملة ليكون لأبنائها قلوب محبة تحنو على جميع الكائنات.
بهذه الشخصية المتكاملة نجح صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته؛ ففتحت لها القلوب، وخلَّدت الأمة الأميَّة بأثرها في الحضارة الإنسانية؛ قال تعالى {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} الزخرف 44.
ونجح في تجميع قبائل العرب وتوحيدها بعد أن أكلتها الثارات ومزَّقتها النزاعات والحروب وقد ظنَّ ظان أنها لا تجتمع أبداً، فكانت أعظم نعم الله عليها، ووجهها لاستنقاذ أراضيها المغتصبة؛ قال تعالى {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} آل عمران 103.
وفوق ذلك كله نجح في تقويم السلوك وتزكية القلوب والسمو بالأرواح إلى قيم الفضيلة وقمم الأخلاق والمُثُل، فتطهر المجتمع من الرذائل لأن استقامة أبنائه ليست شكلية أو ظاهرية، بل هي نابعة من ضمائرهم ومراقبتهم الذاتية وحرصهم على رضا ربهم، فتحرروا من سلطان الفساد ودانوا بالوحدانية لرب العباد. كان صلى الله عليه وسلم بذلك قدوة الأتباع والأصحاب والأحباب في الصبر والصدق والثبات، فكان للإنسانية الرحمة المهداة والنعمة المسداة.
نَبَذَ الجاهلية وأعرافها الباطلة، كيف لا وقد بُعِثَ ليحرر الناس من أغلالهم ويخلصهم من ضلالهم، كيف لا وهو القائل {ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع} 7رواه مسلم
إن رسالة هذا خلق رسولها المكلف بتبليغها لم يكن لها أن تنتهي بموته، بل هي باقية ماضية إلى يوم القيامة ما بقي على وجه الأرض مؤمن يشهد لله بالوحدانية، ويتأسى برسوله صلى الله عليه وسلم ويسير على نهجه، فقد هيأ الله لها من بعده عباداً له وأولياء يبذلون كل غالٍ ونفيس لاستبقائها حية في القلوب والوجود.
- د. تيسير التميمي يكتب: الصبر في المحن والشدائد - الأربعاء _14 _ديسمبر _2022AH 14-12-2022AD
- د. تيسير التميمي يكتب: جهود الإمام البخاري في تدوين وتدقيق السنة النبوية - الأربعاء _15 _يونيو _2022AH 15-6-2022AD
- د. تيسير التميمي يكتب: تدوين السنة المشرفة في العهد النبوي - الأحد _5 _يونيو _2022AH 5-6-2022AD