تكثر الشبهات التي يتذرع بها المهاجمون للحديث النبوي الشريف والمشككون فيه، ومنها مثلاً الزعم بأن تدوين السنة النبوية بدأ في منتصف القرن الثاني الهجري، وهذه الشبهة ليست بالحديثة،
فقد زعمها كثير من المستشرقين أمثال جولزيهر المستشرق اليهودي المجري المولود في القرن التاسع عشر، وهو أول مستشرق قام بمحاولة واسعة للتشكيك بالحديث النبوي الشريف،
إن مطلقي هذه الشبهة والمروّجين لها قديماً وحديثاً
إنما يهدفون إلى تقويض القاعدة الأساسية التي تقرر أن السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام،
مدعين بأنها لو كانت كذلك لأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه بكتابتها كما أمرهم بكتابة القرآن الكريم،
ولمزيد من التشكيك فقد احتجوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم {لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فلْيَمْحُه،
وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ… فليتبوأ مقعده من النار} رواه مسلم،
نعم هذا حديث صحيح يمنع الكتابة، ولكن هذا أسلوب فاشل في أخذ الأحكام من حديث واحد في المسألة الواحدة،
فهناك أحاديث صحيحة أخرى كثيرة تنص على إذنه صلى الله عليه وسلم بكتابة أحاديثه،
منها مثلاً:
قال أبو هريرة رضي الله عنه {لما فتح اللَّه على رسوله صلى اللَّه عليه وسلم مكة قام في الناس فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قَال:
إن اللَّه حبس عن مكةَ الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين فَإنها لا تحل لأحد كان قبلي وإنها أحلت لي ساعةً من نهار وإنها لا تحل لأحد بعدي فلا ينفر صيدها ولا يختلى شوكها ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفدى وإما أن يقيد فقال العباس إلا الإذخر فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلا الإذْخر فقام أبو شاه رجل من أهل اليمن فقال اكتبوا لي يا رسول اللَّه. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: اكتبوا لأبي شاه}
رواه البخاري.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه
{كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا:
أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ يتكلم في الغضب والرضا؟
فأمسكتُ عن الكتاب فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال: اكتبْ فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق} رواه أبو داود.
قال أبو هريرة رضي الله عنه
{ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب}
رواه البخاري،
وقد سميت صحيفة عبد الله هذه بالصحيفة الصادقة واشتملت على ألف حديث كتبها بيده، وهي من أصدق الوثائق التي تؤكد تدوين الحديث النبوي في عهده صلى الله عليه وسلم.
صحيفة المدينة
وبعد وصول الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة مهاجراً من مكة كتب صحيفة المدينة،
وهي بمثابة دستور نظم العلاقة بين سكان المدينة المنورة من المسلمين المهاجرين والأنصار فيما بينهم
وكذلك فيما بينهم وبين اليهود والعرب من أهل المدينة الذين لم يسلموا بعد، وحدد فيها واجبات الجميع ومسؤولياتهم،
ومضمون هذه الصحيفة هو جزء من الحديث النبوي والسنة النبوية، وقد شاعت رواية هذه الصحيفة وتواترت،
وفيه دليل صريح على الكتابة، فقد جاء في مطلعها كما رواه ابن إسحق في السيرة النبوية
{بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي الأمي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس}.
وكاتب النبي بعض كبار الملوك والزعماء يدعوهم إلى الإسلام،
وكان يختم هذه الكتب بخاتم اتخذه من فضة نَقْشُهُ محمد رسول الله في ثلاثة أسطر:
محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر، وكثير من هذه الكتب مازالت مخطوطاتها موجودة،
فقد
{كتب إلى كِسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى اللَّه تعالى. وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى اللَّه عليه وسلم} رواه مسلم،
وكتب أيضاً إلى هرقل وإلى المقوقس حاكم مصر وإلى المنذر بن ساوى وغيرهم، وهذه الكتب جزءً من السنة النبوية المطهرة، فقد كان يملي نصها من كلامه على الكاتب.
صلح الحديبية
وكتب صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية بينه وبين قريش في السنة السادسة للهجرة، وهو من حديثه ومن سنته،
أملاه بكلماته على كاتبه علي رضي الله عنه ونصه {باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيلاً ابن عمر…} رواه البخاري
وكان للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه صحيفة تتضمن أحاديث نبوية {في العقل وفكاك الأسير وألاَّ يقتل مسلم بكافر}
رواه البخاري،
وذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى في الجزء الأول صفحة 486 بأن
[هذه الصحيفة كانت في جفن سيف النبي صلى الله عليه وسلم المسمي ذو الفقار].
وكان للصحابي سعد بن عبادة رضي الله عنه صحيفة تتضمن عدة أحاديث نبوية منها أنه {صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين} رواه مسلم،
وقد رأى البخاري أن هذه الصحيفة نسخة من صحيفة عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، وكان سعد يكتب هذه الأحاديث بيده.
الصحيفة الصحيحة
وكان للتابعي الكبير همام بن منبه رحمه الله صحيفة تسمى بالصحيفة الصحيحة التي روى أحاديثها عن الصحابي أبي هريرة رضي الله عنه، وتحتوي مائة وثمانية وثلاثين حديثاً.
قال ابن عباس رضي الله عنهما {لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب،
قال النبي صلى الله عليه وسلم : هَلُمَّ أكتبْ لكم كتاباً لا تضلوا بعده…}
رواه البخاري، وذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى أنه كان لعبد الله بن عباس نفسه ألواحاً يحملها معه في مجالس العلم،
وأنه لما مات ترك حمل بعير من كتبه، وكان تلميذه سعيد بن جبير رحمه الله يكتب ما يمليه عليه.
إن كل هذه الوثائق ما ذكرتُ منها وما لم أذكر تدحض المقولة الخاطئة
بأن الحديث النبوي لم يدون إلا في القرن الهجري الثاني وتفنّدها،
بل إنها تؤكد ابتداء التدوين في العهد النبوي وكتابة كثير من الأحاديث النبوية بين يديه صلى الله عليه وسلم
بعد وفاة النبي
أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فقد كان الصحابة يحتاجون الأحاديث في شؤون حياتهم فيأخذونها عن أقرانهم،
فليس كلهم حضروا جميع مجالس رسول الله وسمعوا كل ما قال أو شاهدوا كل ما فعل،
فمنهم من انشغلوا بمجاهدة الحياة، فتشددوا في ذلك ووضعوا ضوابط ومعايير لقبولها،
ليس انتقاصاً من عدالة الصحابة، فهم الرعيل الأول الذين كرمهم الله سبحانه بشرف الصحبة،
وإنما بهدف درء الخطأ عن الحديث النبوي والصون له من أي دخيل،
ومن هذه الضوابط على سبيل المثال:
فأبو بكر الصديق رضي الله عنه كان يطلب شاهداً مع الراوي على سماع الحديث من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد
{جاءت الجدة إليه تسأله ميراثها، فقال: ما لَكِ في كتاب الله تعالى شيء وما علمتُ لك في سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فارجعي حتى أسأل الناس،
فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة حضرتُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس،
فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر…} رواه أبو داود،
وعمر رضي الله عنه أيضاً كان يطلب شاهداً،
قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه {كنت جالسًا في مجلس الأنصار فأتانا أبو موسى فزعًا أو مذعورًا، قلنا ما شأنك؟
قال إن عمر أرسل إليَّ أن آتيه فأتيتُ بابه فسلمت ثلاثًا فلم يرد علي فرجعتُ. فقال ما منعك أن تأتينا؟ فقلت إني أتيتك فَسَلَّمْتُ على بابك ثلاثًا فلم يردوا عليّ فرجعت،
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يُؤذن له فليرجع، فقال عمر أقم عليه البينة وإلا أوجعتُك، فقال أُبَيُّ بن كعب:
لا يقوم معه إلا أصغر القوم، قال أبو سعيد: قلت أنا أصغر القوم. قال فاذهب به} رواه مسلم،
وفي هذا الشأن قال أبيّ بن كعب فيما بعد: يا ابن الخطاب فلا تكونن عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال عمر: سبحان الله! إنما سمعتُ شيئاً فأحببت أن أتثبت، ثم قال عمر بعد ذلك لأبي موسى رضي الله عنهما معللاً:
أما إنّي لم أتهمك ولكني أردت أن لا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقول على المنبر:
لا يحل لأحد يروي حديثاً لم يسمع به فى عهد أبى بكر ولا في عهد عمر.
وكان علي رضي الله عنه يستحلف الراوي على سماعه الحديث من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قال:
{كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه وكان إذا حدثني عنه غيره استحلفته فإذا حلف صدقته}
رواه أحمد.
وقد وردت الآثار
بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكتبون بعض هذه الأحاديث وبالأخص لمن هم خارج المدينة المنورة،
والأثر هو ما أضيف إلى الصحابي من قوله أو فعله، فمن هذه الآثار أن أبا بكر الصديق كتب لأنس بن مالك هذا الكتاب
لما وجَّهَه إلى البحرين
{بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين
والتي أمر الله بها رسوله فمن سُئِلَها من المسلمين على وجهها فليعطها…}
رواه البخاري،
ومن هذه الآثار أيضاً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب لعتبة بن فرقد فاتح أذربيجان بعض السنن،
فقد أرسل عتبة لعمر نوعاً من الطعام يسمى الخبيص وهو نوع من التمر والسمن، قال أبو عثمان النهدي
{كتب إلينا عمر ونحن بأذربيجان: يا عتبة بن فرقد إنه ليس من كَدِّكَ ولا من كَدِّ أبيك ولا من كَدِّ أمك،
فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير،
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير، قال إلاَّ هكذا،
ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما} رواه مسلم.
وقد يسأل سائل؟ أليس هذا من التناقض؟ فمرة ينهى صلى الله عليه وسلم عن الكتابة ومرة يأذن بها؟
والجواب أن النهي عن الكتابة كان سابقاً عن الإذن بها،
فربما كان النهي خوفاً من اختلاط القرآن الكريم بالحديث النبوي وبالأخص أن الناس حديثو عهد به
وبأنه لم يكتمل نزوله بعد، وربما كان النهي خوفه صلى الله عليه وسلم
من اهتمام الناس بالحديث النبوي وانصرافهم عن القرآن الكريم وضعف همتهم عنه،
فلما نزل أكثر القرآن الكريم وحفظه الصحابة في الصدور غيباً وفي السطور كتابة ورسخت معرفتهم به،
فقد زال التخوف، لذا أذن صلى الله عليه وسلم بكتابة الحديث إذناً عاماً،
ومن العلماء من يرى أن سبب النهي عن كتابة الحديث النبوي اعتماد العرب على الحفظ أكثر من الكتابة،
فقد كانوا يتصفون بقوة الذاكرة وصفاء الذهن وسرعة الحفظ ودقته، وبهذه الطريقة حفظوا القرآن الكريم،
وكانوا من قبل قد حفظوا الأدب والأنساب والتاريخ وغيرها من العلوم والتراث والإرث الثقافي والحضاري،
ومنهم من يرى أن سبب النهي هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاش بين أصحابه رسولاً ونبياً مبلّغاً الرسالة ثلاثاً وعشرين سنة،
وفيها كثير جداً من الأحداث والوقائع،
وصدرت عنه خلال هذه الفترة الزمنية أقوال وأفعال وتقريرات كثيرة لا تعد ولا تحصى ولا يحاط بها،
فلو أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتدوينها لصعب هذا على الصحابة وعلى المدوّنين والكُتّاب،
وهناك من يرى أن النهي عن الكتابة كان لمن يوثق بحفظه لئلا يتكل على الكتابة إذا كتب،
ويرون أن الإذن بالكتابة إما لضعيف الحفظ أو كثير النسيان،
ويرى غيرهم أن النهي خاص بكتابة الحديث مع القرآن الكريم في صحيفة واحدة.
وبذا تسقط شبهة عدم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتدوين الحديث النبوي ونهيه عن كتابته،
ولذلك فإننا ندعو أبناء الأمة الذين يرددون هذه المقولات المغلوطة بحسن نية
أو بغير علم أن يتأكدوا ويتثبتوا مما يقولون قبل أن يرددوه وينشروه، فهذا هو المنهج الذي أمرنا باتباعه،
قال تعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}
الحجرات 6،
فنشر هذه المقولة الباطلة لا يصيب قوماً بجهالة فحسب وهم الصحابة والعلماء الذين نافحوا عن السنة النبوية، وإنما يصيب الدين والعقيدة،
لولا أن الله تعهد بحفظ مصادره ومرجعياته الأصلية وهي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
- د. تيسير التميمي يكتب: الصبر في المحن والشدائد - الأربعاء _14 _ديسمبر _2022AH 14-12-2022AD
- د. تيسير التميمي يكتب: جهود الإمام البخاري في تدوين وتدقيق السنة النبوية - الأربعاء _15 _يونيو _2022AH 15-6-2022AD
- د. تيسير التميمي يكتب: تدوين السنة المشرفة في العهد النبوي - الأحد _5 _يونيو _2022AH 5-6-2022AD