وأكاد أزعم أن حديث أنس في خدمة رسول الله ﷺ أصل من أصول الدراية والفهم كما هو أصل من أصول الدعوة والتربية، وذلك أن التشريع لا يقتضي فحسب أن يكون أمراً أو نهياً أو تقريراً أو صفة، وليس بالضرورة أن يكون فعلاً أو تركاً، بل قد يكون تجاهلاً مؤثّراً يطبع في النفس شعوراً قويّاً بالهيبة والحب المتمكّن والحرص على الملازمة والقرب، بحيث إنك تصحح سلوكك القولي أو الفعليّ لمجرد الهيبة ومراعاة القدوة وملاحظة ما يحبه القدوة وما يكرهه ولو على سبيل الظن، فقد كان رسول الله ﷺ شديد الحياء شديد الذوق لا يحب أن يواجه أحداً بما يكره غالباً، وإنما تعرف الكراهة إذا نظرتَ إلى وجهه فيقع في خاطرك أنّ ما كان منك مكروهٌ، وهذا يعني أن بيئة النبوة لم تكن تعني أن رسول الله ﷺ أقام مجالس حكم أو فقه، وإنما كان يعمم التشريع من خلال التمثّل والمعايشة ربما كان أكثر مما كان ذلك بالأمر والنهي والوعظ المباشر، فخلقُه القرآن، وأكثر أمره يُسْر.
وحديث الفتى أنس بن مالك واردٌ في الصحيح لكن ثمة رواية في مسند الإمام أحمد تكشف هذا الجانب، فأنس فتي صغير لكنه كيّس كما وصفه زوج أم أبو طلحة، كما أنه غلام كاتبٌ كما وصفته أمّه، ولكن سلوكه كحال أي صبي ليس فيه كمال تمييز ولا تمام رشد، بل إنه كان يحب العناد الطفوليّ كما ورد في رواية عنه أن رسول الله ﷺ أرسله في حاجة، فيحلف لرسول الله ﷺ بلغة الطفل المتمرد: واللهِ لا أذهب! ولكن هذا الفتى كان عازماً على الذهاب ولكن بعد أن يلعب، فيقبض رسول الله ﷺ بقفاه من ورائه أثناء لعبه وهو يضحك، ويقول له متملِّحاً مداعباً:”يا أُنَيس أذهبت حيث أمرتك؟»
فيكذب أنس كذبة الأطفال المراوِغة، ويقول: نعم. أنا أذهبُ يا رسول الله!
بل إن أنساً كان يسخر من نفسه عندما يستذكر مواقفه الطفولية التي لا تتناسب مع مهمة الخام ووظيفته، يقول أنس معترفاً على شخصية ذاك الطفل الذي كان عليه أثناء الخدمة: ليس كل أمري كما يَشْتَهِي صاحبي أن يكون !
وبالعودة إلى رواية مسند أحمد، فإننا نجد أن هذا الفتى الذي أمضى نحو عشر سنين يخدم رسول الله ﷺ في السفر والحضر في بعض الأمور المنزلية، يستحضر تلك الأخلاق النبيلة، والصفاء النقيّ في المعاملة، فلا يكاد يرى من فرط الحب والتأثر إلا صفات عالية، بل إن أنساً يستحضر في شيخوخته نغمة صوت رسول اللهﷺ، وهو يربّيه بهمس الروح ورحيق القلب وأنغام المعاملة، يقول أنس فيما رواه عنه تلميذه ثابت البُنَانِيّ:
قال أنس: ما شَمَمْت شيئًا عنبرًا قطّ، ولا مسكًا قطّ، ولا شيئًا قطّ أطيب من ريح رسول اللَّه ﷺ، ولا مَسَسْتُ شيئًا قطّ ديباجًا، ولا حريرًا، ألين مَسًّا من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-.
قال ثابت: فقلت: يا أبا حمزة، ألستَ كأنك تنظر إلى رسول اللَّه ﷺ، وكأنك تسمع إلى نَغَمَته؟
فقال: بلى واللَّه، إني لأرجو أن ألقاه يوم القيامة، فأقول: يا رسول اللَّه خُويدمك!، قال أنس: خدمته عشر سنين بالمدينة، وأنا غلام، ليس كل أمري كما يَشْتَهِي صاحبي أن يكون، ما قال لي فيها: أُفّ، ولا قال لي: لم فعلت هذا؟ وألا فعلت هذا؟
وانظر هنا: فهو لم يقل له أفّ، ولم يأمره ولم ينهه ولم يلمح له، لأنّ التوجيه هنا لا يحتاج إلى نصوص، وليس في الأمر ما يدفعنا إلى تكبير الأمر ورفع تلك الحادثة إلى مستوى قانوني، ومرافعة حاسمة مثل أن نقول: (فيه منقبة لأنس -رضي اللَّه عنه- حين لم يقع منه في هذِه المدة الكبيرة ما لا يجوز فعله، إذ لو فعل شيئًا من ذلك لما أقره رسول اللَّه ﷺ، فإنه لا يقر على باطل).
وانظر إلى فهم أبي العباس القرطبي -صاحب كتاب المُفْهِم- وجميل ذوقه، ودقّة إدراكه: (حَلَف أنسٌ بالله على الامتناع مِن فعل ما أمره به رسول الله ﷺ مشافهة، وهو عازمٌ على فعله، فجمع بين مخالفة رسول الله ﷺ وبين الإخبار بامتناعه، والحلف بالله على نفي ذلك مع العزم على أنه كان يفعله، وفيه ما فيه، ومع ذلك فلم يلتفت النبي ﷺ لشيء من ذلك، ولا عرَّج عليه، ولا أدبه؛ بل داعبه، وأخذ بقفاه، وهو يضحك رفقًا به، واستلطافًا له، ثم قال: يا أنيس! اذهب حيث أمرتك، فقال له: أنا أذهب. وهذا كله مقتضى خلقه الكريم، وحلمه العظيم).
- د. أسامة الأشقر يكتب: واللهِ لا أذهبُ! - الثلاثاء _21 _يونيو _2022AH 21-6-2022AD
- د. أسامة الأشقر يكتب: يا فكيك! - الخميس _12 _مايو _2022AH 12-5-2022AD
- د. أسامة الأشقر يكتب: الأَثْل.. شجرة المنبر النبوي! - الأحد _1 _مايو _2022AH 1-5-2022AD