بعد أن كانت سبأ آية في مسكنها لها جنتان تشقّانها أعرضوا فبدلهم الله بها غابات من أُكُل خَمْطٍ وأثْل وشيء من سدر قليل…
فأما الخمط والسدر فلهما حديث آخر، واليوم أتحدث في مجلسي هذا عن الأثل…
وأحسب أن الأثل كان هذا موضع وروده، فالأثل فيه حزن تراجيدي، فتراه مرتبطاً بالأطلال الخرِبة والمتهدّمة الباقية من آثار الديار، تراه كثيراً حولها
أجيرانَ وادي الأثلِ ما فَعَلَ الأثلُ *** وَما عِلمُكُم بالرَّملِ هَل سقيَ الرّملُ !
وهذا الأثل مِن قبلُ كان هو سبب بناء البيوت وعمران القرى،
فخشبُه مما يعتمد عليه في سقف البيوت والأعمدة والأبواب والنوافذ والسواني
ومثاعب تصريف مياه أسطح المنازل القديمة وأطباق الطعام ومعدات الزراعة القديمة وشدّادات جِمال الرحلة؛ فالأثل من أكبر أشجار الصحراء.
ومن شرف الأثل
أن منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صُنع منه، واجتلبوه من عوالي المدينة من شمالها في الغابة المعروفة إلى اليوم بهذا الاسم «الغابة»،
صنعه نجّار مملوك لإحدى الأنصاريّات على ثلاث درجات من عروق أشجار أثل متينة،
وكان وقوف رسول الله على الدرجة الثالثة التي تكون أكثر انبساطاً ليتمكّن من الوقوف عليها،
وورد في كتب الدلائل أن إحدى خشبات الأثل هذه حنّت كحنين الناقة لمّا قعد عليه رسول الله فوضع رسول الله يده عليه فسكن،
وبقي منبر الأثل النبوي في مسجد الرسول حتى احترق في حريق المسجد النبويّ سنة 654 هـ.
وفي بعض المصادر يقولون إن خشب المنبر من شجر الطرفاء،
وحقيقة الأمر أن هناك تشابهاً بين الأثل والطرفاء لكونهما من فصيلة واحدة، لكن خشب الطرفاء أقرب للأعواد الغليظة أما الأثل فهو أكرم عوداً وأصلب وأكبر وأعرض وأكثر ارتفاعاً،
كما أن الطرفاء ذات أوراق كثيرة العقد ولونها مغبرّ؛ ولكونه متيناً كريم العود صنعوا منه المنبر النبويّ الشريف.
ويزعمون أن نبي الله زكريا قتلوه، ونشروه بالمنشار، وهو في داخلها، وفي قرية زكريا في فلسطين المحتلة وجود للأثل إلى اليوم، ويسمونه «نثل».
وكثيراً ما كنا في رحلاتنا نستظل بها، ولاسيما إذا كان هناك أَيْكٌ منها، والأيك مجتمع أشجار الأثل ومنابتها، وكل أثلة أيكة،
وكثيراً ما تجد أماكن باسمها ولاسيما إذا كثرت فيه فيقولون: أم الأثل، ويقلبون الثاء تاءً أحياناً.
وكنا نسأل كثيراً عما نراه على أهداب أغصانها من تلك المكورات العفصية البنّيّة التي تسمّى الكَرْمَع أو «جَرْمازِج» -وهي كلمة فارسية الأصل-
وكنا نظنه ثمرة، وهكذا ظنّ بعض أصحاب المعاجم، لكن معارف اليوم أفادتنا بأنه تضخّم نسيجي بسبب إفرازات حشرية.
وهذا الكرمع له منافع عديدة فهم يستخدمونه في دباغة الجلود الناعمة اللينة مثل العكّة والجراب وجاعد الصوف الصغير،
يطحنونه ويربّصون به الجلد، حيث يعطيها ليونة زائدة ولوناً يميل للحمرة؛ كما أنهم ينقعونه،
ويتمضمضون به لتسكين وجع الأسنان وتقوية اللثة، وربما أوقدوا النار على الكرمع الناشف ونفخوا دخانه على الجروح، وعالجوا به النفساء.
والأثل مما يساعد على تفتيح الصدر
يضعون أهدابه اليابسة على الجمر ويستنشقونه ويزعمون أنه يسكّن آلام الصدر؛ ويستخدمون ورقه في تنظيف الأواني كأنه صابون، كما أن الورق من طعام الإبل.
وفي موسم اخضرارها ربما يخرج من ساقها سائل لزج رقيق له مذاق حلوٌ كانت تحبّه العرب، وتتسلى بمضغه.
وإذا أردت زراعته فخذ منه عقلة واغرسها بزاوية مائلة في حوض ثلثه ماء، وغيّر الماء كل ثلاثة أيام، وسيجذّر بعد أسبوعين، أو اغرسه في غدير سيلٍ أو بقايا مياه الأمطار المتجمعة.
ولزهرتها الصغيرة البيضاء المنقطة باللون الزهريّ التي تسمّى البَغْو إبهار بصريّ يجذب نحل الصحراء إليها فترعى منها،
وتصنع منه عسلاً نافعاً طيباً يتداوَى به، ولها زهرتان في كل خريف مداريّ أولها في شهر 6،
وزهرتها حينئذ صافية لا تختلط بأزهار شجر الحمض الذي لا يزهر في هذا الموسم ولذلك يفضّلها النحّالون،
وهناك زهرة تالية لها بعد نحو ثلاثة أشهر تشترك مع موسم الحمض فيختلط مذاق العسل.
وهي شجرة تحتمل الجفاف وملوحة الترابة، وأعجبُ ما فيها أن الحشائش والنباتات الخضرة لا تنمو تحتها،
لذلك يصِفها بعضها بأنها مانعة الحرائق الغابيّة لأنها لا تساعد على انتشار النار بسبب انعدام القش في دائرة ظلالها.
- د. أسامة الأشقر يكتب: يا فكيك! - الخميس _12 _مايو _2022AH 12-5-2022AD
- د. أسامة الأشقر يكتب: الأَثْل.. شجرة المنبر النبوي! - الأحد _1 _مايو _2022AH 1-5-2022AD
- د. أسامة الأشقر يكتب: مَن لم يكنْ أَمامنا في الصفّ، فلا يكن إِمامَنا في الصفّ! - الأحد _26 _ديسمبر _2021AH 26-12-2021AD