(1)
لطالما حذّرْنا من الركون إلى أفهامنا في تدبّر ألفاظ القرآن حتى ما بدا منها واضحاً جليّاً، فإن سليقتنا اللغوية تعرّضت للكثير من التطور الطبيعيّ الذي يكاد يفارق المعاني الأصليّة الوضعية أو ينحو بها إلى استعمالات مستحدثة غير قائمة في زمان الترتيل.
(2)
وهناك أبواب في الاستعمال اللغوي هي أقرب إلى علم الاجتماع اللغويّ وبيئة الخطاب وظرفه…، ويحتاج المرء إلى استحضارها مع المعاني المعجمية لتحرير تدبّره.
(3)
تخيّل مثلاً أنك تردد هذه الجمل بحياد ولا ترى فيها ما يمسّ اعتقادك: أنت رحيم ورؤوف وحاكم وخالق وكبير ومبدع …
ثم ترى نمطاً في التعبير يقترب من عقد المقارنة في شكله، لكنك – وأنت العربيّ السليقة- لم تفهم منه معنى المقارنة والمشابهة إلا في حدود اشتراك أصل المعنى،
وبالتالي لا تشعر بمعنى المفاضلة مع جهة أعلى غير دنيوية حينما تسمع:
أحكم الحاكمين- أرحم الراحمين- أحسن الخالقين- أكرم الأكرمين- أحسن المصوّرين- أعفى العافين – أجود الأجودين – أمجد الأمجدين- خير الماكرين- ورب الأرباب… وأنتَ في فهمك واعتقادك لا تفهم معنى التعدد في هذه الصفات والمعاني.
(4)
فهذه الصيغ هنا استخدمت صيغة المفاضلة للوصول إلى معنى الصفة المشبّهة لتمكين هذه الصفات في الموصوف، كقولنا: الله أكبر،
فهذا لا يعني ما يظنه العامة أن الله أكبر من هذا وذاك من المتجبّرين والمتعالين،
فتلك المقارنة فاسدة ولا قيمة لها، لأنه لا مجال للمقارنة بين الله سبحانه وأحد خلقه، بل المراد هنا أن الله كبير كبراً مطلقاً لا يدانيه أحد ولو اجتمعوا على ذلك، وحتى لو فكّرتم في المفاضلة على سبيل قياس الفارق الهائل، وبمعنى آخر فإن استخدام صيغة التفضيل هنا لم يأت لغرض المفاضلة وإنما لنفيها نظراً لشدة التباعد في حقيقة الوصف رغم وجود صلة مشتركة في الصفة.
(5)
ومن ذلك لفظ الخالق، فهذا اللفظ يجوز استعماله لغة وعقلاً وشرعاً على الإنسان وأي بانٍ أو صانعٍ أو منشئ يركّب الأشياء ويهيّئها على هيئة معينة،
فتقول: أنا خلقتُ هذا النصّ، وأنا خلقتُ هذا البناء، وخلقتُ هذه الآلة…
وتقول: خلق العصفورُ هذا العشّ المنسوج؛ فهذه الكلمة تستوعب هذه المعاني التي تتضمّن معنى التميّز وإتقان الصنعة وعمق التفكير وجمال الأداء،
ومنه قوله تعالى على لسان سيدنا عيسى عليه السلام:
(إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله )
وقول الله تعالى: ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني ).
(6)
وبما أننا نعلم أن الله خالق كل شيء وأنه الخالق البارئ المصوّر فلابد أن نعلم أيضاً أن الله قد جعل بعض صفاته في صفات خلقه على سبيل المشاكلة، ولا ننسى أن فينا نفخة من روح الله، واستحققنا بتلك الميزة أن نكون أكرم خلقه.
(7)
والخلق في حقيقة الأمر يتضمن جوانب عدة مرتبطة ببعضها: التقدير -والإنشاء على وفق هذا التقدير-
ثم عملية التصوير، ويمكن القول إن الخالق هو المقدّر لما يوجده،
وأما البارئ فهو الذي يخترع هذا الخلق ويميزه عن بعضه بأجناسه وأصنافه وأنواعه،
وأما المصور فهو الذي يعطي هذا الكائن المتخلّق مثاله وصورته.
(8)
وبالتالي فإن الخالق في الحقيقة هو المنشئ الأول والبارئ الأول والمصوّر الأول،
ومع ذلك فإنه قد منحَنا بعض الصفات التي تقترب في دلالاتها من هذه المعاني ذات الألوهية فأجاز لنا مجازاً تقريبياً أن نصف أنفسنا بأننا خالقون،
وهذا من أعظم منازل التكريم لعباده الذين أقرّهم على استعمال هذه الصفة
وقيامهم بها نظراً لعميق استنباطهم وبُعد نظرهم وشدة اجتهادهم في اختراع أمور لم يُسبَقوا إليها.
- د. أسامة الأشقر يكتب: فريد مكاوي.. من يحفظ لنا ما تركتَه! - الأحد _10 _يوليو _2022AH 10-7-2022AD
- د. أسامة الأشقر كيف أتدبّر معنى.. أحسن الخالقين! - الخميس _30 _يونيو _2022AH 30-6-2022AD
- د. أسامة الأشقر يكتب: واللهِ لا أذهبُ! - الثلاثاء _21 _يونيو _2022AH 21-6-2022AD