بسم الله الرحمن الرحيم
جوابا على الإشكال الذي ورد في كلام الشيخ بسام جرار في قضية الترحم على الكفار بعد موتهم لابد من التقديم بمقدمة بعدها نورد التفصيل، أما المقدمة فنقول وبالله التوفيق:
لدينا كمسلمين علوم أساسية وظيفتها ضبط قضية الاستدلال، من أهم هذه العلوم علم أصول الفقه.
وعلماؤنا يذكرون دائما أنه لابد في إثبات أي قضية أو نفيها من دليل وبرهان، وعملية الاستدلال عملية مركبة وليست سهلة كما يتصور البعض
وأذكر لكم في هذا السياق بيان ذلك بكلام موجز جدا قاله الإمام الشريف التلمساني في مفتتح كتابه القيم : «مفتاح الوصول في بناء الفروع على الأصول» يقول- رحمه الله-: «اعلم أن الأصل النقلي يشترط فيه أن يكون صحيح السند إلى الشارع صلوات الله عليه، متضح الدلالة على الحكم المطلوب، مستمر الحكم، راجحا على كل ما يعارضه».
فالخطوات التي تمثل شروطا في اعتبار دليل ما هي:
1- ضرورة وجود دليل شرعي.، فلا تقبل دعوى بلا دليل.
2- صحة هذا الدليل وثبوته. فلا يصح الاستدلال بغير الصحيح.
3- لا يكفي الصحة فقط في كونه دليلا معتبرا، بل لابد من كونه صريح الدلالة في الموضوع.
4- وليس ذلك فقط بل لابد معه أن يكون مستمر الحكم بمعنى كون الدليل غير منسوخ. لأنه قد يكون صحيحا منسوخا وحينئذ لا يجوز العمل به.
5️⃣ومع ثبوت كل ما سبق لابد أن لا يكون هناك دليل أرجح منه. وإلا لتركنا المرجوح وعملنا بالراجح.
يضاف إلى ذلك قواعد مهمة في الاستدلال وبخاصة بآيات القرآن اذكر منها:
1- اعتبار السياق الجزئي للنص الشرعي ومعناه ضرورة اعتبار السياق السابق للآية واللحاق لها.
2- عتبار السياق الكلي للنص الشرعي ومعناه ضرورة النظر في الآيات والنصوص المشابهة والداخلة في ذات الموضوع محل البحث ومعرفة العلاقات بين هذه النصوص ذات الموضوع الواحد من عموم وخصوص ونسخ ولإطلاق وتقييد وغير ذلك حتى لا نضرب نصوص الشريعة بعضها ببعض، لأن الشرع لا يناقض بعضه بعضا فيحتاج إلى إدراك الصورة الكلية له وعدم الاكتفاء فقط بالنظر الجزئي.
فهل ما ذكره الشيخ بسام -حفظه الله– توفرت فيه هذه القواعد المهمة؟
الحقيقة أن الشيخ أخطأ في الاستدلال، وجاء كلامه متناقضا قاصرا
والقصور في كلام الشيخ بسام واستدلاله، أذكره هنا إجمالا:
1- تمسك الشيخ ببعض الأدلة وغابت عنه أدلة أخرى في نفس الموضوع فلم تكتمل لديه الصورة فقال ما قال.
2- أهمل الشيخ السياق الجزئي والكلي فلم يلتفت إليه.
3- ضرب الشيخ بعض النصوص ببعض نتيجة ما سبق.
الجواب التفصيلي:
أهمل الشيخ النصوص الآتية:
1️⃣) قوله تعالى في سورة العنكبوت :{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)}
قال الرازي {أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي لَمَّا أَشْرَكُوا أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ مَحَلِّ الرَّحْمَةِ}
وقال «وتبين أن عدم الرحمة يناسب الإشراك».
قلت: فإن كان الله تعالى قد حكم بيأسهم من رحمته فكيف نرجوها لهم نحن هذا كما قال غير واحد إما أنه عبث منا أو معصية.
2️⃣) الشيخ استدل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن عمه أبي طالب في قوله:
«هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل» قال الشيخ بسام: «فخفف الله من عقوبته وهذا من الرحمة»
أقول: هذا خطا واضح، فقد غاب عن الشيخ قوله تعالى في سورة الأنعام:
{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍۢ فَقَدْ رَحِمَهُۥ ۚ وَذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ}. جاء في التفسير الوسيط «أى: من يصرف عنه عذاب هذا اليوم، فإنه يكون ممن شملتهم رحمة الله ورعايته، وذلك هو الفوز الذي ليس بعده فوز.»
فمن كان حتى في أقل عذاب في جهنم والعياذ بالله لا يسمى حاله رحمة ولا يسمى مرحوما بنص القرآن الكريم في هذه الآية.
ومثلها قوله تعالى : فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز.
وبناء على ذلك لا يساعد الشيخ بسام فيما ذهب إليه تفريقه بين المغفرة والرحمة مستعينا بذلك على جواز الترحم. فالنصوص ترد ذلك.
3️⃣) استدلاله بقوله تعالى : {رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} أن الآية ليس فيها تخصص الوالد المسلم دون غيره ومن يقول بالتخصيص فعليه بالدليل؟
أقول الشيخ هنا أهمل السياق الجزئي وأهمل السياق الكلي
أما إهماله للسياق الجزئي فظاهر حيث لم يتنبه إلى قوله تعالى
{إما يبلغنك عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}.
تلاحظون قوله تعالى «عندك» يعني في بيتك وفي رعايتك، فهم إذا أحياء وليسوا أمواتا،
والدعوة لهم بالرحمة إن كانوا مسلمين أو غير مسلمين لا إشكال فيها، فلا خلاف في جواز الدعوة لمن كان كافرا بالرحمة حال حياته،
وتكون معنى طلب الرحمة لهم أن يؤمنوا فيرحمهم الله بالانتقال من الكفر إلى الإسلام،
أما إن ما توا على الكفر فالقاعدة المتفق عليها أنه لا يجوز الترحم على كافر مات على كفره
وإن كان قريبا كما في قوله تعالى {ما كان للنبي والذين أمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى}.
والمغفرة تقتضي رحمة كما أن عدم المغفرة يقتضي عذابا.
والسياق يؤكد على أن ذلك في حال الحياة فعن قتادة {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} .
هكذا عُلِّمتم، وبهذا أمرتم، خذوا تعليم الله وأدبه، ذُكر لنا «أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم وهو مادّ يديه رافع صوته يقول: مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيهِ أوْ أحَدَهُما ثُمَّ دَخَلَ النَّارَ بَعْدَ ذلكَ فأبْعَدَهُ الله وأسْحَقَهُ».
فقوله صلى الله عليه وسلم من أدرك والديه أو أحدهما” معناه أدركهما أحياء في كبرهم وهو قادر على رعايتهم».
وقد قال جمع من المفسرين بأن الدعاء لهم بالرحمة إن ماتوا على الكفر منسوخ بآية براءة. وهو قول ابن عباس ترجمان القرآن وعكرمة،
قد قال الطبري في تفسيره وقال جماعة من أهل العلم: إن قول الله جلّ ثناؤه {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}
منسوخ بقوله
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ.}
* ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس،
قوله {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}
ثم أنزل الله عزّ وجلّ بعد هذا
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، قال في سورة بني إسرائيل {إمَّا يَبْلُغانّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدهُمُا أو كِلاهُما}….
إلى قوله {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} فنسختها الآية التي في براءة مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى… الآية.
حدثنا القاسم،
قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس {قُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا}…. الآية،
قال: نسختها الآية التي في براءة {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ…} الآية. انتهى كلام الطبري.
قلت: يرجح موضوع النسخ أن آية الإسراء مكية وآية التوبة الناسخة مدنية فهي متأخرة، والمتأخر ينسخ المتقدم عند التعارض وعدم إمكانية الجمع بينهما،
وفي نفس الوقت القول بالنسخ تؤيده النصوص الأخرى الحاكمة على أن الكفار في النار لا ترجى لهم رحمة.
وحتى لو قلنا بأن آية الإسراء غير منسوخة فعمومها تخصصه الأدلة القاضية بأن الكفار في النار لا ترجى لهم رحمة، وبهذا ندرء تعارض الأدلة.
وقد قال الطبري :وقد تحتمل هذه الآية أن تكون وإن كان ظاهرها عامًّا في كلّ الآباء بغير معنى النسخ، بأن يكون تأويلها على الخصوص، فيكون معنى الكلام:
وقل ربّ ارحمهما إذا كانا مؤمنين، كما رَبياني صغيرا، فتكون مرادا بها الخصوص على ما قلنا غير منسوخ منها شيء.
هذا عن إهمال السياق الجزئي.
وأما إهمال الشيخ بسام للسياق الكلي فجميع الآيات الواردة في الكفار دون استثناء توجب لهم اللعنة وتنفي عنهم الرحمة والمغفرة،
ومعلوم أن اللعنة هي الطرد من الرحمة وعدم استحقاقها، فهل نهمل كل هذه الأدلة ونتمسك بشيء مظنون.
والقاعدة عند العلماء أن الظني نرده إلى القطعي.
والقطعي كثير عندنا في هذه القضية فلو ورد شيء ظني كتلك الظنون التي تمسك بها الشيخ بسام ينبغي أن نردها على القطعيات وهي الحاكمة عليها المبينة لمعناها.
- د. أحمد زايد يكتب: أخطاء منهجية في تعامل المسلم مع الشبهات - الأحد _12 _يونيو _2022AH 12-6-2022AD
- د. أحمد زايد يكتب: أيها الآباء قولوا كلاما معقولا - الأحد _29 _مايو _2022AH 29-5-2022AD
- د. أحمد زايد يكتب: وأعوذ بك من شتات الأمر - الخميس _26 _مايو _2022AH 26-5-2022AD