قائمة المحتويات :
- اللقاح الفرنسي ضد الإسلام ..! - الأثنين _25 _يناير _2021AH 25-1-2021AD
- الحِداد على امرأة الحَدَّاد - السبت _16 _يناير _2021AH 16-1-2021AD
- د. أحمد الريسونى يكتب: مقصد السلام في شريعة الإسلام (4) - الأربعاء _6 _يناير _2021AH 6-1-2021AD
المبحث الثاني: السياج التشريعي
ما قبل الإذن بالقتال..
من المعلوم تواترا أن الإسلام لم يأذن للمسلمين في استعمال السيف للدفاع عن أنفسهم إلا بعد أن حـمَّلهم أقصى ما يمكن،
وأقصى ما يستطيعونه، من الحِـلم والرفق والصبر والعفو، تجاه ما كان مسلطا عليهم من عدوان المشركين.
القتال المشروع معلَّلٌ ومقيَّد
القتال المشروع في الإسلام ورد مقرونا -في كافة مراحله- بعدد من التعليلات والحدود والقيود،
يجب الوقوف عندها أولاً لتدبرها، ويجب الوقوف عندها ثانياً، بمعنى إعمالِـها وعدمِ تجاوزها.
وفيما يلي التعليلات والحدود القرآنية المتعلقة بالقتال المأذون به والمأمور به.
الإذن الأول للمسلمين بالقتال، في قوله تعالى:
{أذِنَ لِلَّذِينَ يقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}،
جاء معلَّلا بعلتين أولاهما عامة جامعة، والأخرى فرعية تابعة:
فالأُولى هي: أنهم ظلموا،
والثانية هي: أنهم أخرجوا من ديارهم بغير حق.
وهذا نوع من الظلم، بل هو متضمن لمضالم عديدة. فذِكْـرُه بعد ذكر الظلم يشبه عطف الخاص على العام.
مشروعية القتال
ومعنى هذا أن مشروعية القتال جاءت لمواجهة الظلم بأشكاله المختلفة التي مارسها المشركون على المسلمين،
وصبر عليها المسلمون سنين طويلة. ثم وصلت إلى حد إخراجهم من ديارهم؛ أولا بالهجرة إلى الحبشة، وثانيا بالهجرة إلى المدينة.
قال العلامة محمد الطاهر ابن عاشور(وذلك أن المشركين كانوا يؤذون المؤمنين بمكة أذى شديدا،
فكان المسلمون يأتون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه،
فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال، فلما هاجر نزلت هذه الآية بعد بيعة العقبة، إذناً لهم بالتهيؤ للدفاع عن أنفسهم)[11].
قوله سبحانه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]،
فيه أمر للمسلمين بأن يقاتلوا الذين يقاتلونهم، وألا يعتدوا بمقاتلة من لم يقاتلوهم.
بمعنى أن المسلمين يواجهون العدوان، ولا يمارسون العدوان.
فالقرآن الكريم يقرر أن مقاتلة من لم يبادرنا بالقتال اعتداء،
ويقرر أن الله لا يحب المعتدين.
وهذان أمران غير قابلين للنسخ ولا للتغيير، فلا يصح ولا يمكن أن يصبح العدوان مباحا أو مأمورا به.
وما لا يحبه الله (وهو الاعتداء والمعتدون) لا يمكن أن يصبح محبوبا أو مطلوبا عنده تعالى.
قوله تبارك وتعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 74/75].
فيه أيضا تعليل صريح للأمر بالقتال، بكونه لنصرة المستضعفين، وردعِ الظالمين.
قوله سبحانه: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: 12، 13]،
فيه تحريض واستنهاض لمقاتلة قوم معينين موصوفين، لكونهم:
نقضوا عهودهم مع المسلمين،
وطعنوا في دينهم،
وحاولوا إخراج الرسول، ثم اضطروه إلى الخروج فعلا (ومعه أصحابه)،
وكانوا هم البادئين بالحرب، ظلما وعدوانا…
“قال أبو جعفر (أي الطبري):
يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله، حاضًّا لهم على جهاد أعدائهم من المشركين: (ألا تقاتلون) ،
أيها المؤمنون، هؤلاء المشركين الذين نقضوا العهد الذي بينكم وبينهم، وطعنوا في دينكم، وظاهروا عليكم أعداءكم،
(وهموا بإخراج الرسول)، من بين أظهرهم فاخرجوه (وهم بدءوكم أول مرة) بالقتال،
يعني فعْلَهم ذلك يوم بدر، وقيل: قتالهم حلفاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة”[12]
معظم ما تقدم ذكره من علل وضوابط للقتال الشرعي، نجده – وغيرَه – منصوصا عليه، أو مشارا إليه، في هذه الآيات الجامعة:
{واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظالِمِينَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:190 – 194].
سبقِ المشركين في عدوانهم
ففي هذه الآيات تأكيدٌ لسبقِ المشركين في عدوانهم على المسلمين؛ وأنهم أخرجوهم من ديارهم، وفتنوهم عن دينهم.
وكل واحد من هذه الأفعال كافٍ لمشروعية الرد عليه وردعه، فكيف لو اجتمعت؟!
ومع ذلك، فالآيات تقرر وتكرر أن القتالَ وردَّ الاعتداءات، إنما يكون مِـثْلا بمثل.
مبدأ الرد ومواجهة القتال بمثله وبما يكافئه، مؤكد كذلك في قوله عز وجل:
{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].
فالقتال المأمور به هنا موجه ضد المشركين كافة، ردا على دخولهم كافةً في حرب المسلمين.
فمتى وجد مشركون لم يقاتلوا المسلمين، فليسوا مشمولين بالقتال المأمور به في الآية.
إعمال النصوص كلها
إعمال النصوص كلها، بدل افتراض التعارض والنسخ بينها
من الآفات المنهجية التي يقع فيها بعض المفسرين وبعض الفقهاء: مسارعتهم إلى القول بالتعارض والتناسخ بين النصوص.
وهي مسألة فيها بحث طويل، مفصل في مظانه المختصة، فلا أريد التطرق إليه، ولكني أشير إلى أن المسلك الذي أَتَّـبعه هو رفض القول بالنسخ،
إلا إذا جاء ذلك بشكل صريح لا محيد عنه، ولا وجه فيه إلا النسخ.
وهو ما قرره وكرره إمام المفسرين ابن جرير الطبري، كما في قوله:
(النسخ لا يكون في حكم إلا بنفيه بآخرَ، هو له نافٍ من كل وجوهه)[13].
وقوله: (لا يكون نسخًا إلا ما كان نفيًا لحكمٍ غَيْرِه بكلِّ معانيه، حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعًا على صِحّته بوجه من الوجوه)[14].
قال: (لأن دعوى المدَّعي نَسْخَ آية يحتمل أن تكون غيرَ منسوخة، بغير دلالة على صحة دعواه، تحكُّم. والتحكم لا يعجِز عنه أحد»[15].
المـحْكَم غير منسوخ
لذلك أقول: كل ما لم يثبت نسخه بشكل قطعي ثبوتا ودلالة، فهو مـحْكَم غير منسوخ، والعمل به واجب ومستمر،
ولا سيما ما تكرر وتأكد من المعاني والأحكام في آيات وسور عديدة.
وعلى هذا الأساس، فإن ما تقدم بيانه من مبادئ وتعليلات قرآنية في شأن القتال،
يجب أن يظل مستصحَبا ساريَ المفعول، ليس لأحد أن يوقف العمل به، بدعوى النسخ أو المرحلية أو غيرهما.
وفي ضوئه، وبتوافق معه، تفهم آيات الباب – وكذلك الأحاديث – التي وردت بغير تعليل ولا تقييد.
وبعبارة أصولية أخرى: فإن المطلق منها يُـحمل على المقيد[16]؛
فعِلَلُ القتال الشرعي وقيودُه، قد ذكرت وتكررت وتأكدت في مواضع متعددة،
فليس يلزم ذكرها كلما ذكر القتال.
بل لو لم تذكر إلا مرة واحدة لكان ذلك كافيا ومطَّردا في سائر الآيات غير المعللة.
وبناء عليه، فحيثما جاء ذكر القتال أو الأمر به مطلقا بدون تعليل ولا تقييد، فهو محمول على علله المعلومة المقررة في عدة مواضع من الكتاب العزيز..
فقوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
معناه أن القتال كتب علينا من حيث المبدأ، لكن ممارسته واستعماله الفعلي إنما يكون بأسبابه وشروطه المعلومة، المذكورة في غير ما آية.
ولو جاز لأحد أن يأخذ هذه الآية بمفردها، وبمعزل عن الأسباب والشروط المعلومة،
لجاز له متى شاء أن يحمل سيفه ويقاتل، على أساس أن الله {كَـتَب عليه القتال}.
وهذا عبث لا يخفى. فبقي أن القتال لم يكتب علينا لذاته، ولم يكتب علينا بلا سبب ولا قيد ولا شرط.
وكذلك قوله تبارك وتعالى:
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]،
فهو محمول على ما تقرر واستقر من أسباب القتال وضوابطه، ومنها أنه موجه للمعتدين، وممنوع لغير المعتدين.
وبناء عليه، فلا قتال لأهل الكتاب ولا لغيرهم، إلا بالأسباب المعلومة. وتأتي الجزية تعبيرا عن هزيمة المعتدي وكفه لأذاه، ودخوله في السلم.
أمرت أن أقاتل الناس
وعلى هذا النحو أيضا يحمل ويفهم قوله صلى الله عليه وسلم:
(أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة،
فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)[17].
فإن «الناس» في هذا الحديث هم الناس المعَـيَّـنون المعلومون،
الذين كانوا في حالة حرب مع المسلمين، من قريش وحلفائهم، بحسب السياق الذي تقدم بيانه.
ففي هذه الحرب القائمة بالفعل مع أولئك المحارِبين المعتدين،
أَخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنه مأمور بالمضي في قتالهم والقضاء على قوتهم،
ولن يوقفه عن ذلك سوى احتمال إعلانهم الدخول في الإسلام والعملَ بأركانه. فحينئذ يصبحون مسلمين، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
ويتعزز هذا التفسير للحديث، بل يتعين، بما جاء في قوله تعالى
{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5].
فالموضوع واحد، والسياق التاريخي واحد، والأحكام المقررة هيَ هي.
الجهاد بين التقرير المبدئي والتقدير الفعلي
التقرير المبدئي لمشروعية القتال وعلله وشروطه، هو أمر تشريعي تولاه القرآن الكريم،
كما تقدم. ولكن يبقى بعد ذلك أن يقع التقدير العملي التنفيذي للحرب وعدمها، في كل حالة على حدة.
وهذا التقدير يرجع إلى اختصاص ولاة الأمور، حكاما وعلماءَ وخبراءَ وقادةً عسكريين، وليس موكولا إلى أفراد المسلمين وعامتهم، بل هو كما قال تعالى:
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم} [النساء: 83].
فهم الذين ينقحون المناط في الحالات المعينة، وهم الذين ينظرون في تحقق الشروط والقيود، وفي وجود موانع أو عدم وجودها.
وهم الذين يقدرون هل بقيت فسحة لمزيد من الصبر والصفح تلافيا للحرب وأوزارها، أم أن الحرب أصبحت حتمية لا بديل عنها…
رأي ابن تيمية في القتال المشروع ومتى يجوز[18]:
رأي ابن تيمية فصَّله وحرره في كتابه (قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم)[19]، ومنه أنقل هذه الفقرات..
استدل رحمه الله بقاعدة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ} [البقرة: 256]،
وقال: «هذا نص عام: أنَّا لا نكره أحدا على الدين، ولو كان الكافر يُقتل حتى يسلم، لكان هذا أعظمَ الإكراه على الدين»[20] .
وقال: «جمهور السلف والخلف على أنها ليست مخصوصة ولا منسوخة.
بل يقولون: إنا لا نكره أحدا على الإسلام، وإنما نقاتل من حاربنا، فإن أسلم عصم دمه وماله،
ولو لم يكن من فعل القتال لم نقتله ولم نكرهه على الإسلام»[21] .
“فقوله {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
تعليق للحكم بكونهم يقاتلوننا، فدل على أن هذا علةُ الأمر بالقتال.
ثم قال: {ولا تعْتَدُوا}، والعدوان مجاوزة الحد، فدل على أن قتال من لم يقاتل عدوان”.[22] .
«وكانت سيرته – صلى الله عليه وسلم -: أن كل من هادنه من الكفار لا يقاتله. وهذه كتب السير والحديث والتفسير والفقه والمغازي تنطق بهذا.
وهذا متواتر من سيرته.
فهو لم يبدأ أحدا من الكفار بقتال، ولو كان الله أمره أن يقتل كل كافر لكان يبتدئهم بالقتل والقتال»[23].
«وأما النصارى فلم يقاتل أحدا منهم إلى هذه الغاية حتى أرسل رسله – بعد صلح الحديبية – إلى جميع الملوك يدعوهم إلى الإسلام،
فأرسل إلى قيصر وإلى كسرى والمقوقس والنجاشي وملوك العرب بالشرق والشام فدخل في الإسلام من النصارى وغيرهم من دخل،
فعمد النصارى بالشام فقتلوا بعض من قد أسلم من كبرائهم بمعان. فالنصارى حاربوا المسلمين أولا وقتلوا من أسلم منهم ظلما وبغيا،
وإلا فرسُلُه أرسلهم يدعون الناس إلى الإسلام طوعا لا كرها،
فلم يكره أحدا على الإسلام. فلما بدأه النصارى بقتل المسلمين أرسل سرية أمَّـر عليها زيدَ بن حارثة، ثم جعفرا، ثم ابن رواحة.
وهو أول قتال قاتله المسلمون للنصارى بمؤتة من أرض الشام»[24] .
“ولما نزلت آية الجزية كان فيها أن المحارِبين لا يعقد لهم عهد إلا بالصغار والجزية”[25] .
وخلاصة كلامه في قوله: «الأصل الذي عليه الجمهور:
أنه إذا كان القتال لأجل الحراب، فكل من سالم ولم يحارِب لا يقاتَل، سواء كان كتابيا أو مشركا.
الجمهور يقولون بهذا. وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما»[26].
وقوله: “وقول الجمهور هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار” [27].
رأي ابن القيم
وهو كالعادة مؤيد ومؤكد لرأي شيخه ابن تيمية.
قال رحمه الله: “فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم استجاب له ولخلفائه بعده أكثر أهل الأديان طوعا واختيارا،
ولم يكره أحدا قط على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه، امتثالا لأمر ربه سبحانه وتعالى حيث يقول:
(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)،
وهذا نفي في معنى النهي، أي لا تكرهوا أحدا على الدين. نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهودوا وتنصروا قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أسلم الآباء وأرادوا إكراه الأولاد على الدين، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام…
ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تبين له أنه لم يكره أحدا على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله،
وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيما على هدنته، لم ينقض عهده، بل أمره الله تعالى أن يفيَ لهم بعهدهم ما استقاموا له،
كما قال تعالى: (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم).
فلما قدم المدينة صالح اليهودَ وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدءوه بالقتال قاتلهم، فمنَّ على بعضهم، وأجلى بعضهم، وقتل بعضهم. وكذلك لما هادن قريشا عشر سنين لم يبدأهم بقتال حتى بدءوا هم بقتاله ونقضِ عهده، فحينئذ غزاهم في ديارهم، وكانوا هم يَغزونه قبل ذلك، كما قصدوه يوم الخندق، ويوم بدر أيضا هم جاءوا لقتاله، ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم.
والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم لم يكره أحدا على الدخول في دينه البتة، وإنما دخل الناس في دينه اختيارا وطوعا”[28].
الهوامش
[11]- التحرير والتنوير 17/ 273 .
[12] – تفسير الطبري (= جامع البيان في تأويل القرآن) 14/ 158.
[13] – تفسير الطبري (= جامع البيان في تأويل القرآن) 6/ 118 .
[14] – جامع البيان في تأويل القرآن10/ 333 .
[15] – جامع البيان 3/ 563 .
[16] – حمل المطلق على المقيد له حالات متفق عليها عند الأصوليين، وحالات مختلف فيها. والحالة المتفق فيها على الحمل هي حالة اتحاد السبب (الموضوع) واتحاد الحكم بين كل من المطلق والمقيد. وما نحن فيه منها. فالسبب (موضوع الآيات) واحد، وهو القتال. والحكم واحد، وهو الوجوب. فتعينَ حمل الوجوب المطلق على الوجوب المقيد…
[17]- الحديث متفق عليه.
[18] – من كتابه: (قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم).
[19] – بعض من لم يعجبهم رأي ابن تيمية المعبر عنه في هذا الكتاب، حاولوا التشكيك في صحة نسبته إليه. ولكن عددا من المحققين ومن المختصين في تراث ابن تيمية ومؤلفاته يجزمون بصحة الكتاب وما فيه من كلام ابن تيمية. ومنهم محقق الطبعة المذكورة آنفا. ومنهم العلامة عبد الله بن زيد آل محمود، في الجزء الثالث من (مجموعة رسائل الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود).
ومما يؤكد قول ابن تيمية وصحةَ نسبته إليه، رأيُ تلميذه ابن القيم، الذي سيأتي ذكره بعد رأي ابن تيمية..
[20] – قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم، ص121.
[21]- نفسه، ص 123/124.
[22] – نفسه، ص91/92
[23] – نفسه، ص 134.
[24] ص135 – 137.
[25] – ص 158/159.
[26] – المرجع نفسه 178/179.
[27] – المرجع نفسه ص90 .
[28] – هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى.