- د. أبو يعرب المرزوقي يكتب: عقد الثورة الأول.. دلالة ذروته وصلا بين البداية والغاية - الأحد _20 _ديسمبر _2020AH 20-12-2020AD
- د. أبو يعرب المرزوقي يكتب: ماكرون والهروب من أزمة العلمانية اليعقوبية - الأربعاء _7 _أكتوبر _2020AH 7-10-2020AD
- د. أبو يعرب المرزوقي يكتب: يوميات الشاهد التاريخي الـ«كرونيكور» - الثلاثاء _29 _سبتمبر _2020AH 29-9-2020AD
كما هو بين فقد صرت أجمع بين نوعين من الكتابة انشرها في وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة منذ «الثورة» لأن التاريخ تغير فصار للفعل الجمعي فيه دور متزايد الزخم كيفيا والتراكم كميا.
فالجمع بين نوعي دوافع التاريخ ومحركاته الروحية والمادية هو جوهره الفعلي في جميع الحضارات. والانحطاط علته الفصل بينهما. ومراحل الاستئناف هي تكوينية الجمع المتدرج بينهما كما نشهد ذلك في لحظتنا الراهنة.
فبدت بعض كتاباتي شبه اليومية -المشفوعة بمواصلة الكتابات الجامعة بين الفلسفي والديني وهما عندي غير قابلين لفصل أحدهما عن الثاني- وكأنها من جنس «الكرونيك» لظرفيتها أي الشهادة التاريخية بمعنى اليوميات التاريخية من منظور المشارك في الأحداث ليس بالرأي الأكاديمي فحسب، بل بالمشاركة الفعلية في الحدث الذي لم يعد حكرا على الساسة أو على القوى السياسية بل عين المشاركة في المواطنة التي هي فرض عين في رؤية الإسلام باعتبار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو جوهرها وهو من مقومات الإيمان.
لكن مفهوم «الكرونيك» التي هي مساوقة للفعل التاريخي وغالبا ما تكون إما لأصحاب الفعل السياسي نفسه أو لمن كلفوهم بكتابة يوميات ما شاهدوه من أفعالهم هو الذي يحتاج إلى شرح حتى أميز ما أقوم به عنه. فما أكتبه لا ينتسب إلى أي من هذين النوعين.
فلست كرونيكور بهذا المعنى لأني لست مشاركا في الفعل السياسي المباشر حتى لما تقدمت للناخبين وشاركت بصفة المستشار: ما زلت لم اقصص تجربتي تلك لأنها محكومة بواجب التحفظ.
ثم إني لست في خدمة قوة سياسية معينة ولا لسان دفاع عن خياراتها التي لها قرابة بمشروع أومن بها دون أن تمثله حقا. فكونها حركة سياسية مباشرة يجعلها تقدم العاجل على الآجل والتكتيكي على الاسترايتجية لأنها عديمة التأسيس النظري المتعلق بمديد التاريخ.
وبهذا المعنى فما أقدمه ليس كرونيك بمعنى يوميات السياسي بل هو محاولة في فهم ما وراء ما يجري في مشروع نهوض الأمة بعد الانحطاط. وهي فضية يشترك فيها الفلسفي والديني من حيث كونهما «ما بعدا» لكل أنشطة الإنسان بمعنيي الـ«ما بعد» اللذين وصف بهما ابن سينا الميتافيزيقا: أي ما قبل تأسيسا وما بعد تجاوزا.
وهو إذن نفس ما كنت أقوم به أكاديميا منذ كتبت الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر. وما تغير هو المخاطب به. كان خطابي مقصور على أهل الاختصاص ثم صار المواطن عامة لأن الهموم التي أتكلم عليها هي شأنه من حيث هو مواطن يبحث عن:
1- شروط حرية المواطن وكرامته في الداخل.
2- شروط سيادة الجماعة وكرامتها في الخارج.
فهذان النوعان من الشروط متلازمان بمعنى أن الشعوب التي لم تتحرر من الاستباع والاستضعاف يعسر أن تتحرر من الاستبداد والفساد. والعكس بالعكس. وهذا التأزم التشارطي هو الذي يجعل المعركتين متلازمتين ولا تجريان بالتوالي بل بالتساوق.
وخطر هذه النقلة من الخطاب الأكاديمي إلى الخطاب الجماهيري قد يحول الفكر إلى أفسد صور الخطاب الفكري أعني ظاهرتين كلتاهما لا يتجاوز دورها الأداة الإيديولوجية التي تحول الكرونيك إلى «محاماة» عن أجندات ليس للمعركتين فيهما دور آخر غير التغطية عليهما.
1- ظاهرة التنشيط الإعلامي من جنس ما نراه اليوم في الأعلام العربي خاصة والعالمي عامة والذي لا علاقة له بالأعلام لأنها في الغالب تابعة للمخابرات والمافيات. وهي الآن بيد كاريكتور التحديث.
2- ظاهرة الدعوة الفجة في الفكر الديني الذي لا يختلف عن التنشيط الإعلامي إلا بنوع الأجندة ولا علاقة له بالدين لأنها مثل الأولى تابعة للمخابرات والمافيات. وهي الآن بيد كاريكاتور التأصيل.
وغالبا ما يحصل ذلك عندما يتحقق الجمع بين نوعي المشاركة بين المخاطبتين في الأمم التي مرت بمرحلة انحطاط حين انتقالها:
1- من الاستئناف الدفاعي في مرحلة التحرير من العدو الخارجي فتقاوم الاستعمار المباشر كالحال في لحظتنا التاريخية الإسلامية الحالية من مندناو إلى المغرب.
2- إلى مرحلة التحرر من نوابه فتقاوم الاستعمار غير المباشر ممثلا بعملائه الذين يستخدمون نوعي الكرونيك التي نجدها في الإعلام وفي الدعوة الدينية لمنع هذه النقلة.
فتجمع الأمة حينها بين مطلب الحرية والكرامة داخليا ومطلب عدم التبعية ومطلب السيادة خارجيا. ومن المفارقات أن الترتيب بين المقاومتين ينعكس بمعنى أن البداية كانت مقاومة عدو الجماعة الخارجي
والغاية أصبحت مقاومة ممثليه في الجماعة الداخلية ونوعا الكرونيك الجارية حاليا من أدوات هؤلاء الممثلين للاستعمار غير المباشر في تزييف الوعي ومنع الانتقال: فالكاريكاتوران أفضل ممثلي ألسنة الدفاع عن الحوائل دون الاستئناف.
فهم من يعمق سلطانها ويؤبد حربها على شروط السيادة التي من دونها لا يمكن التحرر من الاستبداد والفساد. ومعنى ذلك أن الاستتباع والاستضعاف هو الذي يحول دون الحرية والكرامة لما يصبح ممثلو الاستعمار من أهل الدار بأخلاق العار.
كنت قبل البلوغ إلى هذه الغاية أسهم بما أستطيع في المقاومة الأولى لأني عشت غاية المرحلة الأولى من المقاومة. وكان يسيطر عليها شبه إجماع وطني يحول دون رؤية ما يندس في هذا الإجماع الوطني من حيل لا تمكن من فهم فنون الاستعمار غير المباشر المتخفي في خرافة التحديث السريع.
وعدم الوعي بهذه الحيل أو حتى الوعي الغائم بها كان يحول دون الانتقال من الكتابة الأكاديمية -وهي على أهميتها- أبعد ما يكوهن عن تجاوز الخطاب أهل الاختصاص في مجال التخصص.
فكانت علاقتها بالشأن العام الذي يشمل حياة الجماعة بكل أبعادها شديدة اللا مباشرة ومن ثم فهي أبعد ما يكون عن هموم الناس التي هي شديدة المباشرة فضلا عن كون ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي لم تكن موجودة.
بحيث إن الجمع بين الهم العام والفكر الأكاديمي لم يكن ممكنا حتى لو فرضنا فرصه السياسية متاحة. وهي طبعا لم تكن متاحة لعلتين: الأمية شبه العامة بمعنى عدم الوعي بمقتضيات العصر والحرية السياسية شبه الممتنعة بمعنى الإجماع شبه المقدس حول رموز الشرعية التاريخية من الجيل المقاوم.
وإمكانه الوحيد كان العمل السياسي المباشر باعتباره حق الجميع وواجبهم مشاركة معهم لكنه كان شبه مستحيل بمعنى المشاركة في تحديد العبارة عن إرادة الجماعة الحرة التي لا يمنعها الإيمان بالشرعية التاريخية من نقد أصحابها ومنعهم من الاستبداد بالأمر.
فصارت السياسة وكأنها اختصاص احتكره قوم يعتمدون على الشرعية التاريخية بحيث يعسر أن نميز بينهم من هو حقا في خدمة الجماعة ومن هو بوعي أو بغير وعي في خدمة الاستعمار غير المباشر. وهو أمر حصل في كل الجماعات التي مرت بنفس التجربة وخاصة في المغرب الكبير.
وأبرز مجالين محيرين من هذا الوجه هما النهوض بشروط القيام المادي للجماعة أو السياسة الاقتصادية التي نعيش الآن مآسيها لأنها كانت خاضعة لمنطق تقديم العاجل على الآجل لفقدان الاستراتيجيا المناسبة.
وما حدث في الاقتصاد حدث ما هو أسوأ في ما يتعلق بشروط القيام الروحي للجماعة أو السياسة الثقافية التي صارت حربا على الذات وتشويها للتاريخ من أجل تأسيس الخيارات التي تبدوا معبرة عن الحاجة إلى التحديث السريع فصارت العائق الأساسي لكل تحديث مستقل لجماعة ذات سيادة.
وبين أن ما حصل بالشروط الأولى صار المحدد الأول لطبيعة الحكم. وما حصل بالشروط الثانية صار محددا لطبيعة التربية. وهما بعدا السياسة بمعناها المعبر عن إرادة الجماعة ذات السيادة. فكانت النتيجة زوال كل شروط السيادة بمعنييها:
1- سيادة الجماعة إزاء غيرها من الجماعات وخاصة إزاء الذي صار غير مباشر لتحكمه في الاقتصاد والثقافة أي في الحكم والتربية.
2- سيادة الفرد إزاء الحكم والتربية اللذين أصبحا بيد من يستمد قيامه من سلطان المستعمر الذي يفرضه ويحميه و ليس من سيادة الجماعة.
لما حصلت الثورة -وقد بدأت في الجزائر وليس في تونس لأن ما يسمى بالعشرية السوداء هو هو ثمرة الحلف الذي صار اليوم عاما واقتصر حينها عليها أعني حلف الاستعمار الفرنسية وممثليه في الجزائر مع الثورة العربية المضادة التي دفعت إلى وأد ثورة الحرية والكرامة.
ولذلك فما يحدث في سوريا وفي ليبيا وفي اليمن كلها محاولات لتكرار ما حدث في الجزائر في تلك العشرية حتى يحولوا دون إتمام التحرير من الاستعمار شرطا في تحقيق شروط الحرية والكرامة للموطن في كل أرض الإسلام.
وتونس ومصر مهددتان بنفس المآل إذا ظللنا نتصور النكوص التام في مصر والشروع فيه في تونس يمكن ألا يؤولا إلى ما يحصل في سوريا وليبيا واليمن إذا بقينا ننتظر ولم نفهم أن التكتيك يمكن أن يعوض الاستراتيجيا.
فالأعداء في نوعي الثورة المضادة التي تديرها «إسرائيل» والغرب والتي تديرها إيران والشرق يمكن أن يتوقفا عما يفعلانه في سوريا وليبيا واليمن دون أن يلغيا كل إمكانية لتواصل المسعى نحو الاستئناف بل هم يحاولون تعميم النموذج المصري بالنموذج الجزائري للعشرة المشئومة.
والآن ينبغي أن أحدد أنواع الخطاب التي تحقق هذا الفعل النقدي لنوعي الكورنيك السائدين أي الكرونيك من حيث هي تنشيط إعلامي ومن حيث هي دعوة دينية.
فكلتاهما يغلب عليهما خدمة نواب الاستعمار غير المباشر والثورة المضادة بنوعيها التي تقدوها «إسرائيل» والغرب وإيران والشرق ويمولهما الحكام العرب من أعراب سايكس بيكو:
1- الكرونيك السياسي وهم خدم القوى السياسية مباشرة الحاكم منها والمعارض في خدمة الثورة المضادة بنوعيها.
2- الكرونيك «المعرفي» هو كرونيك خدم القوى السياسية ممن يزعمون النخبوية المعرفية أو ذوي الخبرة الأكاديمية الخادمين لخدم المستعمر.
3- الكرونيك «الاقتصادي والثقافي» هو كرونيك الخبراء في شروط القيام العضوي والقيام الروحي للجماعة بصورة تشترط فيه التبعية لسيد أسيادهم من نواب الاستعمار.
4- الكرونيك «الفني والذوقي» هو كرونيك «المبدعين» الذين يقضون على ذوق الجماعة باعتباره لا معنى له ويحاولون تعويضه بذوق مستورد باعتباره «الذوق» الكوني.
5- الكرونيك «الرؤيوي» هو كرونيك المتكلمين في الرؤى الوجودية من منطلق فلسفي أو ديني والمنظرين لوحدانية الحضارة لأنها الغالبة ويعتبرون غيرها صفحة من الماضي ينبغي لقلبها بحيث إنهم يحولون بخرافاتهم دون الاستئناف الذي يعتبرونه نكوصا لأنهم مستلبون روحيا.
وأغرب ما في الكرونيكيون الممثلون للكاريكاتوريين يجمع الواحد منهم بين هذه الأصناف الخمسة وهي من العلامات القاطعة على دجله. لأنه لا يوجد إنسان يمكنه أن يكون خبيرا في هذا المجالات الخمسة بل حتى في أحدها بصورة جامعة مانعة.
وطبعا لا أعمم الاتهام وإن عممت الوصف. فالكثير يفعل ذلك وهو صادق في التعبير عن عقده وليس عميلا لأحد بوعي منه.
فلست أدعي أنهم جميعا عملاء بقصد بل إن الكثير منهم مستعمل بغير قصد منه لاندراجه في مشروع شديد اللطافة والخبث بحيث إن المرء من حيث لا يعلم يدافع عن أجندة الأعداء وهو يتصور نفسه مقاوما لها.
وسأكتفي بمثالين من مواقف رجل لا يمكن أن يشكك أحد في صدقه ولا في إخلاصه للأمة وهو شيخ فاضل أحبه وأقدره لأنه خصص كل حياته للدفاع عن قضاياها مجتهدا ومجاهدا واقصد الشيخ الفاضل والقدير الشيخ القرضاوي:
1- فموقفه من التقريب المذهبي مر بمرحلتين كان فيهما صادقا. الأولى كان من المدافعين عن التقريب بحماس منقطع النظير. لكنه اكتشف في الغاية أن العملية كلها خداع وقع فيه لأن دهاة الباطنية استعملوا هذه الورقة لتمرير أجندة نراها بالعين المجردة.
إنها أجندة التقريب بهدف تيسير التبشير بالمذهب الشيعي الذي هو نقض للقرآن والسنة باسم مظلومية آل البيت. وطبعا فالقصد آل بيت كسرى وليس آل بيت محمد. ولما أدرك ذلك عبر بصدق كذلك عن خطأه وصار معارضا للتقريب. وقد ساندته ضد محاربيه-ومنهم من كانوا ينافقونه ممن يمكن اعتبارهم من تلاميذه- لأنه أصدع بهذه الحقيقة لما تأكد منها.
2- وموقفه الذي رمز إليه بمقولة له شهيرة هي «تصويف السلفية وتسليف التصوف». ما يزال على هذا الموقف لأنه إلى الآن لم يفهم أن هذه هي تلك. وعلة الخطأ يتمثل في تصور السلفية هي الوهابية وفي تصور الزهد هو التصوف. فالتصور باطنية أعمق من التشيع. والوهابية ظاهرية فجة لا علاقة لها بالسلفية.
السلفية ليست الوهابية بل هي الزهد والزهد هو السلفية. والتصوف ليس الزهد بل هو التشيع والتشيع أساسه أكاذيب المتصوفة حول الكشف وعلم الغيب وبه اخترقوا الزهد السني: فمن خصائص السنة عقيدة المؤمن غر وهي دليل سذاجة تصل إلى حد الحمق.
لذلك فآمل أن يدرك الشيخ أنه كرر نفس الخطأ لعدم التحليل الدقيق الذي يمكن أن يجده حتى في مقدمة ابن خلدون وفي كتابات ابن تيمية وفيه تمييز بين المجاهدتين «التقوى والاستقامة» والتحريف الذي آل إلى اختراق الباطنية للسنة.
وختاما يمكنني تعريف كتابتي في الأحداث شبه اليومية بأنها نوع ميتاكرونيك أي إنه عملية نقد لمعاني الكرونيك الذي يقدم على أنه فكر نظري والكرونيك الذي يقدم على انه فكر عملي. وهما في الحقيقة من توابع بعدي دين العجل أي من نوع ربا الأموال ومن نوع ربا الأقوال.
لما أرخ ابن خلدون لفكر عصره الفلسفي والديني ميز بين نوعين من المعرفة فيهما كليهما: المعرفة التي يكون العقل فيها داريا بحدوده وفلا يرد الوجود إلى الإدراك والمعرفة التي ليس لها عقل لان العقل الذي لا يعي حدوده جنون فيتأله صاحبه ويعتبر أحكامه علما محيطا وأعماله عملا تاما.
لذلك فقد كان «كرونيكور» لعصره بمعنى ما بعد الكرونيكورات المعاصرين الذي كانوا شهود زور بوعي أو بغير وعي كحال الإعلام والدعوة التي تخدم أجندات لخضوع أصحابهما إلى ربا الأموال ببيع ربا الأقوال.
وذلك هو معنى خدمة العملاء من السياسة والأكاديميين والاقتصاديين والفنانين والرؤيويين الذي بوعي أو بغير وعي يخدمون الثورة المضادة بنوعيها لمنع الاستئناف. لكني مطمئن: فالاستئناف صار مما لا مرد له لأن الأمة أصبحت على وعي تام بدورها الكوني.