من البليّة أن يتصدر صغار المبتدئين في طلب العلم؛ لمجالس التدريس لكتب العلم التي لا يُناقشها إلا العلماء مع الأفذاذ من طلبة العلم!
ويزيد البليّة بليّة أخرى إذا كانت هذه الدروس في كتب متخصصة من كتب الاعتقاد التي تستوجب قراءة وفهم عشرات الكتب التي قبلها.
وزاد الضغث إبّالة أن يأخذ بعض المتحمسين العوام تعلّم هذه الكتب عمَّن لم يفهمها على وجهها، ولم يطالعها ويناقشها على أفذاذ العلماء، ومع ذلك يقوم بذاته ويشرحها؛ وهو جاهل بها وبظروفها وسياقاتها ومنهجية مؤلفها.
وتأتي ثالثة الأثافي إذا كان الحضور عند درس المبتدئ المتصدّر للعلم من عوام الناس ولم يُعرف عنهم اجتهاد في طلب العلم وحفظ المتون وتحصيل الفنون وقضاء الساعات في البحث والقراءة والدراسة؛ فأي شيءٍ هم أحوج إليه أن يتعلمون أسس الدين، وأصول الإسلام وأركانه؛
أو يدخل هذا الفريق في ضيقٍ من غير متسع طريق حتى يصلوا من بعده للتفريق بين قلوب طلبة العلم وتأجيجهم وتأليبهم على علماء الإسلام والتعرض لهم بالطعن والسب والشتم فضلاً عن القول بضلالتهم والتوقف في تكفير بعضهم وتكفير آخرين منهم.. عياذا بالله من هذا القول وقائله!
لقد روى الطَّبَرَاني، والبيهقي في “شعب الإيمان” عن ابن مسعود قال:
“لن يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من قِبَلِ أكابرهم، وذوي أسلافهم، فإذا أتاهم من قِبَلِ أصاغرهم هلكوا”.
وقد كتب الإمام مالك بن أنس إلى محمد بن مطرف:
(خذه – يعني العلم – من أهله الذين ورثوه ممن كان قبلهم يقينا بذلك ولاتأخذ كلما تسمع قائلا بقوله فإنه ليس ينبغي أن يؤخذ من كل محدث ولا من كل من قال وقد كان بعض من يرضى من أهل العلم يقول إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخدون دينكم).
وقال أبو بكر ابن العربي رحمه الله: “فما زال السلف يزكون بعضهم بعضًا ويتوارثون التزكيات خلفًا عن سلف، وكان علماؤنا لا يأخذون العلم إلا ممن زُكِّي وأخذ الإجازة من أشياخه”.
إنَ من يجلس في مجالس لم يُشهد لمن يُعلّم فيها بالعلم والإتقان؛ فهو غاشٌّ لنفسه، مفتتح باب ضلالة، فكيف إذا كان من يُعطي دروس العلمِ لم يتلقّى العلم عن العلماء بل أخذ ذلك عن مقاطع يوتيوبية وكتابات صحفية من الانترنت،
فيخرج لنا من وراء ذلك قومٌ متعالمون أنصاف متعلمين متفيهقون يفسدون على الناس عقيدتهم وأمور دينهم، يُشغلونهم بأمورٍ لا كبير فائدة منها، بل مفاهيمهم فيها باطلة.
لقد نقل الإمام ابن تيمية كلمة مهمة عن بعضهم قولهم :
“أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان”.
لابد لطالب العلم أن يدرك أنَّه بملازمته أخذ العلم عن العلماء الشيوخ فإنّه سببٌ للرسوخ.
حين سئل الإمام أبو حنيفة: من أين لك هذا الفقه؟
قال:كنت في معدن العلم والفقه، فجالست أهله، ولزمت فقيهاً من فقهائهم يقال له حماد فانتفعت به.
وقيل للدينوري:لم صار الُمبرِّد أعلم بكتاب سيبويه من ثعلب؟
قال:لأن المبرد قرأه على العلماء،وقرأه ثعلب على نفسه.
وكان الدينوري زوج بنت ثعلب، ورغم ذلك فكان يترك مجلس ثعلب وأصحابه، ويذهب للمبرد ليقرأ عليه كتاب سيبويه،وكان ثعلب يعاتبه في ذلك،فلا يلتفت لكلامه.
هذا مع العلم أنّ ثعلب النحوي كان من أمهر الناس باللغة والأدب، ولكن يرى عدد من العلماء أنّ ما أُخذَ عن أهل العلم المُعتبرين أدعى لتقعيد المسائل وتنضيدها وضبطها من الأخذ الشخصي عن الكتب.
وقد نبّه على هذه الخصلة في ملازمة الشيوخ والأخذ عنهم؛ الخطيب البغدادي فقال: ” فمن شرط المفتي النظر في جميع ما ذكرناه، ولن يدرك ذلك إلا بملاقاة الرجال، والاجتماع مع أهل النحل والمقالات المختلفة، ومساءلتهم وكثرة المذاكرة لهم، وجمع الكتب ومدارستها، ودوام مطالعتها”.
وقد يكون بعض من يتصدّر لهذه المجالس رغم أنه متزبب قبل أن يتحصرم؛ بل يرى في نفسه أنه رطبٌ جنيٌ لكنّه لم يكن يوماً بًسراً؛
قد تكون لديه بعض الاطلاعات وحفظ قلّة من المنقولات فيرى نفسه أبا شبر ويبدأ بالتطاول على غيره من علماء الإسلام؛ مع أنّه يدّعي الورع والهدوء؛
لكنّ الله كشف ستره عنه حيث ظهر كبره وتنقصه ليس لعامة الناس، بل تسلّط على العلماء بل الأكابر من أهل العلم وأئمة الإسلام،
فعلى أي أساس يكون احترام مثل هؤلاء؛ فوالله لا يستحقون الاحترام، وما حال مثل هذا وذاك إلا كما نقل الذهبي رحمه الله في السير أنّ ابن عساكر قال:
كان العبدري أحفظ شيخ لقيته، وكان فقيهًا داوديًّا.. وسمعته وقد ذُكر مالكٌ فقال:
جِلف جاف؛ ضرب هشام ابن عمّار بالدرة، وقرأت عليه “الأموال” لأبي عبيد فقال -وقد مر قول لأبي عبيد-: “ما كان إلا حمارًا مغفلاً لا يعرف الفقه”، وقيل لي عنه: إنه قال في إبراهيم النَّخَعَي:
“أعورُ سوء”، فاجتمعنا يومًا عند ابن السمرقندي في قراءة كتاب “الكامل”
فجاء فيه: “وقال السعدي كذا”، فقال: “يكذب ابن عَديّ، إنما ذا قولُ إبراهيم الجوزجاني”،
فقلت له: “فهو السعديُ، فإلى كم نحتمل منك سوء الأدب؟ تقول في إبراهيم كذا وكذا، وتقول في مالك: جاف، وتقول في أبي عبيد؟! ” فغضب، وأخذته الرعدة،
وقال: “كان ابن الخاضبة والبَردانيّ وغيرهما يخافونني فآل الأمر إلى أن تقول فيَّ هذا؟! “فقال له ابن السمرقنديّ: “هذا بذاك”، فقلت: “إنّما نحترمك ما احترمت الأئمة..”!
فهذه نصيحة لكل طالب علم عاقل أن يُدرك نفسه وألا يأخذ عن صغار طلبة العلم، وأن يأخذ العلم بالطريقة المأثورة في التلقي والمثافنة، وأن ينبّه كل من يعرف من طلبة العلم بضرورة لزوم هذا الطريق وترك الطرق التي يقوم عليها غ
ير متأهّلين، ديدنهم الخروج بآراء شاذة؛ والاهتمام بالحكم على العلماء من منطلقات التكفير والتبديع والتضليل، وأن يحذر ممن يهمز ويلمز بأئمة الإسلام فوالله إننا نقولها بملء الفم: لا يستحق الاحترام من كان كذلك.
- خباب مروان الحمد يكتب: كيف خالفت (اتفاقية سيداو) التشريعات القرآنية؟ - الأربعاء _25 _يناير _2023AH 25-1-2023AD
- خباب مروان الحمد يكتب: الطريق إلى الله - الأحد _15 _يناير _2023AH 15-1-2023AD
- خباب مروان الحمد يكتب: حين يتشدد المتديّن في نقد أخطاء المتديّنين! - الخميس _12 _يناير _2023AH 12-1-2023AD