كان «سلمان» صبيًّا من منطقة «أصبهان» في بلاد فارس.. وكان أبوه حاكمًا على تلك المنطقة، ويتولى أيضا رعاية النار،
التي يعبدونها جهلًا، من دون الله الواحد الأحد.. وبلغ من شدة حب الأب لصغيره سلمان أنه حبسه في البيت، خوفًا عليه.
وتفرّغ سلمان لإطعام النار التي يعبدونها بالحطب والأوراق، حتى لا تنطفئ..
وراح الصبي الذكي يفكر كلما رأى النار: كيف تكون هذه إلهًا نعبده ونُصلّى له، ونحن نشعلها،ثم نطعمها بالأخشاب والحطب وغير ذلك، لتستمر حية متوهجةً، ولو سكب أحد الماء عليها لخمدت أنفاسها وانطفأت وماتت.
أي إله هذا الذي يحتاج إلى من يُوقده ويُطعمه، وإذا تركوه مات؟! وهل يقتل الماء الإله؟!
هكذا توصل الصغير سلمان بعقله وقلبه الطاهر النقيّ إلى الحقيقة، وهى أن هذه النار لا تستحق العبادة، وأنها مخلوق ضعيف لا تملك لذاتها ولا لغيرها نفعا ولا ضرّا..
وأخذ سلمان يفكر:
من يكون الإله الحقيقي إذًا؟! لابد لهذا الكون من صانع حكيم قادر ولكن كيف أجده؟
من يدلني عليه ويعلمني كيف وأين أعبده؟ راحت تلك الأسئلة وغيرها تدور في عقل الصغير،
حتى حانت له فرصة ذهبية استغلها على الفور، وكانت هي نقطة التحول الكبرى في حياته كلها.
فقد طلب منه أبوه ذات يوم أن يذهب لرعاية الحديقة الكبيرة التي كان يمتلكها، لأنه كان مشغولًا في ذلك اليوم بأمور أخرى.
وانطلق سلمان إليها فرحًا،فقد كان نادرًا ما يسمح له أبوه بالخروج من المنزل.
وفي الطريق مر سلمان بإحدى كنائس النصارى و سمع الرهبان يصلون داخلها فأعجبه أمرهم.
جلس معهم، وتعلّم دينهم فوجده أفضل من المجوسية -عبادة النار- وصمم على اللحاق بهم.
وعلم أبوه بذلك عقب عودته، فزاد خوفه عليه وربطه بحبل، وحبسه في البيت، حتى لا يهرب.
وبعدها بفترة، أرسل إليه الرهبان مَنْ أخبره بمجيء جماعة من أهل دينهم من الشام،
وأنهم سوف يسافرون مرة أخرى بعد أيام .
واستطاع سلمان الهروب من الحبس، وسافر معهم إلى الشام حيث عاش مع راهب بإحدى الكنائس هناك.
وحزن سلمان، لأنه اكتشف أن القسيس لص، يسرق أموال الصدقات لنفسه، ويُكَدّسها في مكان سرى.
وعندما مات الراهب أخبر سلمان القوم بالأمر فاستخرجوا الأموال، ورجموا جثة الخائن.
و جاء راهب آخر صالح مكانه، فأحبه سلمان، و ظل معه، يُصلى ويتعبّد .
وقبل موت الراهب أوصى سلمان بالذهاب إلى راهب آخر صالح «بالموصل» ليتعبّد معه.
ووجده سلمان رجلًا صالحًا مثل صاحبه فعاش معه.
بعد سنوات أحس الرجل بقرب موته، فأوصى سلمان بالذهاب إلى صاحب له في «نصيبين» ثم أوصاه صاحب نصيبين بالذهاب إلى راهب أخر في «عمورية».
وقبل موت الأخير قال لسلمان:
والله يا بني ما أعلم أحدًا بقى على ظهر الأرض، على دين صحيح، لكي أبعثك إليه، ولكن قد اقترب زمان النبي الخاتم،
الذي يبعثه الله في أرض الحرم -الحجاز- ويهاجر إلى أرض ذات نخل.وأرشد سلمان إلى علامات ثلاث للنبي،
فهو لا يأكل من الصدقة، ولكنه يقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة،
وقال له الراهب:
إن استطعت الذهاب إليه فافعل.. وبعد قليل مات الراهب، فدفنه سلمان، وانطلق مع قافلة من الأعراب إلى بلاد الحجاز.
لكن المسافرين معه غدروا به، و باعوه عبدًا في أحد الأسواق، كما يبيعون الحيوانات.
وكان من قدر الله ورحمته بسلمان أن كان المشترى مِن يهود «يثرب» التي سُمّيت بعد ذلك المدينة المنوّرة.
وفور أن دخلها مع سيده، عرف سلمان أنها هي المكان الذي أخبره عنه الراهب، ففرح و اطمأن قلبه،و صبر على ذل و تعب العبودية.
وذات يوم كان سلمان فوق إحدى النخلات، يقطف من البلح لسيده، الذي كان يتحدث تحتها مع ابن عمه،
فسمعه يسأل ابن عمه: هل هو النبي الذي أخبرتنا عنه التوراة؟!
أجاب ابن عمه:
نعم هو، وقد جاء من مكة مهاجرًا إلى «يثرب» واجتمع حوله الأوس والخزرج.
كاد قلب سلمان أن يقفز من صدره من شدة الفرحة، وتماسك بصعوبة حتى لا يسقط فوق سيده من كثرة السعادة.
وفي المساء ذهب إلى النبي ﷺ ببعض التمر، وقال له: جئتكم ببعض الصدقة، لأنكم ضيوف على المدينة، فأمر الرسول أصحابه أن يأكلوا، ولم يأكل معهم.
فرح سلمان وقال لنفسه:
هذه هي العلامة الأولى.
وفي اليوم التالي جاءهم بتمر أيضًا وقال: هذه هدية لكم، فأكل النبي مع أصحابه هذه المرة، فتأكد سلمان من العلامة الثانية.
وفي اليوم الثالث كان الرسول ﷺ جالسًا، فلاحظ أن سلمان خلفه، يحاول رؤية ظهره الشريف، فكشف ﷺ ثوبه من أعلى ظهره،
فرأى سلمان خاتم النبوة على ظهره الشريف، فاحتضنه وبكى.. طيّب الرسول ﷺ خاطره، وطلب منه أن يحكى قصته لأصحابه، وتفاصيل رحلته الشاقة،بحثًا عن الدين الحق،إلى أن استقر بالمدينة المنورة،و اهتدى إلى الإسلام.
وأمره ﷺ بمكاتبة سيده اليهودي -أي الاتفاق معه على أن يدفع له مبلغًا من المال لتخليصه من العبودية-
ووافق اليهودي على إعطاء سلمان حريته، مقابل ثلاثمائة نخلة صغيرة يزرعها له وقطعة كبيرة من الذهب.
وأمر النبي ﷺ أصحابه بمساعدة أخيهم،فجمعوا له ثلاثمائة نخلة صغيرة، وغرسها له النبي ﷺ بيده الشريفة، فنبتت كلها ببركته.
ثم أعطى الرسول سلمان قطعة صغيرة من الذهب من بيت مال المسلمين، وأمره أن يعطيها لليهودي وفاءً بباقي حقه.
وتحقّقت معجزة أخرى فقد وزنت القطعة الصغيرة أكثر مما طلب اليهودي، وبذلك تحرّر سلمان الفارسي من العبودية لغير الله تعالى.
وقد لازم رضى الله عنه النبي ﷺ طول حياته، وحضر معه كل المعارك التي حارب فيها الكفار، دفاعًا عن الإسلام.
وقد أشار سلمان على النبي بخدعة ذكية، هي حفر خندق كبير حول المدينة لحمايتها من هجوم الأعداء في غزوة الأحزاب.
وبالفعل حفر المسلمون خندقًا حول يثرب، وكان هذا من أهم أسباب النصر ومنع المشركين من اقتحام المدينة.
ونال سلمان رضي الله عنه محبة كبيرة في نفوس الجميع،
فقال المهاجرين: سلمان منّا، ونافسهم الأنصار في حبه، فقالوا: سلمان واحد منّا نحن الأنصار.
ورُوى أن النبي ﷺ قد حسم الخلاف بقوله -تشريفًا وتكريمًا لسلمان-: (سلمان منّا اّل البيت)..
وقال عنه ﷺ أيضًا: «سلمان سابق الفرس» إلى الإسلام..
رضى الله عنه وأرضاه.
- حمدي شفيق يكتب: تأدّب يا غُلام مع الأعلام العِظَام! - الخميس _13 _أبريل _2023AH 13-4-2023AD
- حمدي شفيق يكتب: اقرأ «6» - الأربعاء _5 _أبريل _2023AH 5-4-2023AD
- حمدي شفيق يكتب: اقرأ «5» (مكانة العلماء) - الثلاثاء _4 _أبريل _2023AH 4-4-2023AD