يسعى مشروع “حضارة” الذي أُطلق بمبادرة من مؤسسة المنار للتنمية والتطوير ودار الأركان للإنتاج والنشر، إلى إعادة تشكيل القرية الفلسطينية بملامحها الأصيلة بعد تعرضها خلال العقود الماضية إلى طمس وتشويه وتهجير ممنهج طال جميع جوانبها العمرانية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
ويندرج المشروع الذي تتولى تنفيذه مجموعة من الشباب داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ضمن الخطوات الهادفة للحفاظ على الهوية العربية الفلسطينية ومواجهة مشاريع التهويد، إذ يقدم نموذجاً واضح المعالم للقرية الفلسطينية التي بدأت ملامحها بالتلاشي بسبب ممارسات الاحتلال الإسرائيلي ومحاولاته المستمرة لتغييبها من الذاكرة العربية.
وقال مستشار المشروع، المؤرخ والباحث د.جوني منصور في تصريح لوكالة الأنباء العمانية على هامش زيارة إلى عمّان للتعريف بالمشروع: إن “حضارة” يهدف إلى تعزيز الهوية الفلسطينية من خلال بناء وتشكيل القرية العربية عبر بناء مجسّمات فنية تحمل مضامين تربوية لتكون جزءاً من الحيز التعليمي.
وأضاف: أن المشروع الذي يديره نهاد بقاعي، يتوخى الانتقال من حالة رد الفعل واستهلاك الرواية الإسرائيلية إلى حالة المبادرة وإنتاج رواية فلسطينية أصيلة مرتكزة على الذاكرة، تحاكي الواقع والمستقبل في ظل الهيمنة الإسرائيلية على العملية التربوية والتشريعات القانونية ذات الصبغة العنصرية.
وأكد منصور أن العمل جارٍ لإيصال هذا المشروع إلى الشعب الفلسطيني في جميع أماكن انتشاره، وأنه سيكون متاحاً للمدارس والمؤسسات الجماهيرية والتعليمية، بهدف استحضار الرواية الفلسطينية، كما سيتم تزويد المدارس العربية والمعلمين والعاملين في مجالات التثقيف والمشاريع الاجتماعية في الأرض الفلسطينية المحتلة، بمواد تعليمية ودورات إرشادية وورشات عمل تفاعلية في المدارس والمؤسسات الجماهيرية وخارجها.
وبحسب مطوية تعرّف بالمشروع الذي يرأس مجلس إدارته محيي الدين خلايلة، فإن المخرجات تتمثل في بناء هيكلية القرية العربية الفلسطينية وإعادة تشكيل ملامحها المادية المفقودة من خلال مجسَّم يحاكيها، ثم إنتاج 100 مجسَّم لعرضها داخل فلسطين التاريخية خلال سنة واحدة، وأيضاً خارجها حيث أماكن انتشار الفلسطينيين.
ويأمل القائمون على المشروع أن تسهم هذه الخطوة في “توفير مناخ تعليمي” للمهتمين، من خلال الاستفادة من المجسم والمواد التعليمية والمطبوعات المرافقة للمشروع، ومن خلال المشاركة في عملية إعادة بناء قراهم من خلال ورشات عمل فنية وإنتاجية، إلى جانب تأهيل كوادر المعلمين والتربويين والفاعلين في مجالات العمل الاجتماعي لنقل المعرفة حول تفاصيل ومعالم القرية العربية الفلسطينية.
وليحقق مشروع “حضارة” النتائج المرجوّة منه، فقد دُعي للمشاركة فيه مؤرخون وباحثون وصناع قرار ومهندسون معماريون ومهندسو تصميم وفنانون وفنيون.
ومن المنتظَر أن يتمثل المنتَج النهائي للمشروع، بمجسم على طاولة بطول مترَين وبعرض متر واحد، مغطى بزجاج سميك، وهو مُعَدّ لأن يكون ثابتاً في مكانه وليس مؤقتاً. وبهذا فإن حضوره داخل المؤسسات التعليمية والتربوية والاجتماعية يقدم الأجوبة لتساؤلات عدة حول شكل القرية الفلسطينية قبل اختفائها، ويتيح للأجيال اللاحقة معرفة تضاريس القرية عن قرب و”تذويتها”، ليس فقط في المخيلة، بل في الذاكرة الشخصية وبالتالي الجمعية.
يضاف إلى ذلك، كما يشير المؤرخ منصور، فإن وجود مواد تعليمية (مثل كراسة فعاليات تربوية وتعليمية، ولوحات فنية وصور توضيحية)، يكفل نقل رسالة المشروع وأهدافه جيلاً بعد جيل، ويضمن إعادة بناء القرية المختفية، ويدفع إلى فهم مسيرة الآباء والأجداد في تثبيت وجودهم من خلال العمران الذي يشهد على الحضارة الفلسطينية المتوارثة من آلاف السنين.
وسيعمل المشروع على تأهيل كوادر فنية ومهنية، ومنحها أدوات إنتاجية وتربوية تلبي أهدافه الاستراتيجية. ولهذا تم تقسيم طواقم العمل وفقاً لأربعة مجالات تخصصية: الطاقم الفني، وحدة التربية والتعليم، وحدة العلاقات العامة والإعلام، ووحدة الاستشفاف والتقييم.
ويقوم أعضاء إدارة المشروع بترؤس الوحدات المختلفة ومتابعة عملها وتقديم تقارير منجزات دورية من أجل ضمان تنفيذ وتطوير المشروع وفقاً للأهداف المرجوة وخطة العمل، ويحرص القائمون عليه أن يتمتع رؤساء الوحدات والكوادر المهنية العاملة بالكفاءات والمهارات الفنية المجيدة، ما يضمن تنفيذه بالشكل المأمول.
ويضم الطاقم الفني أحد عشر فناناً وفنانة مهنيين، وتضم وحدة التربية والتعليم عدداً من الأخصائيين من ذوي الخبرة، في حين يتولى مسؤول العلاقات العامة والإعلام مهمة التنسيق مع المؤسسات المختلفة، لتنظيم المؤتمرات والأنشطة الجماهيرية المرافقة للمشروع.
يُذكر أن جوني منصور عُرف بجهده البحثي والتوثيقي والتأريخي، حيث بدأ بمدينته “حيفا” واستطاع على مدى عشرين عاماً التوثيق لها في فترة ما قبل نكبة 1948، وتكلل جهده بإصدار كتاب “حيفا.. الكلمة التي صارت مدينة” الذي يؤكد ما تميزت به مدينة حيفا من كونها مركزاً لثلاثة مرافق اقتصادية: خط سكة الحديد الذي تأسس عام 1905، وما رافقه من انتعاش اقتصادي للمدينة، وميناء حيفا الذي كان بوابة على فلسطين وسوريا والأردن وحتى العراق، والمنطقة الصناعية التي بنيت خلال الانتداب البريطاني.