أعلن دائما في أكثر من مقام وأكثر من مقال وفكرة هم قلمي أن يكتب فيها، ويدور في معالمها: أنني أُعظم الإنصاف، وأحترم فرسانه، وأشيد بمواقفه التي صنعها نبلاء الدنيا وأشراف الحياة.
وأنا دائما ما أردد: لا تمنعك مساوئ رجل من ذكر محاسنة.
ولما كان السلطان قانصوه الغوري
الذي حكم مصر أكثر من ١٥ سنة بداية من عام 1501م ممن تحاملنا عليهم كثيرا لعدائه وموقفه وحربه وتآمره على العثمانيين، وتحالفه مع الصفويين،
الذين ثبت اضطهادهم لأهل السنة وذبحهم لعلمائهم، والوقوف معهم في خندق واحد ضد المسلمين السنيين،
إلا أن مقتنا له ولدولة المماليك التي اشتهرت على مدار عقودها، وسنين حكمها، بالظلم والغبن للرعية،
لا يمنعنا أبدا أن نشيد بما ثبت عنه من مآثر ومحمد.!
والمرأ مهما بلغ شره أو جوره، لا يعدم أن يكون له بعض المآثر الكريمة،
التي يجب أن نسجلها ولا نفر منها أو نُعرض عنها، بغية تشويه صورة من أردنا ذمه ونقده.
فليس هذا من أخلاقنا أبدا، فما كان من خير ذكرناه، وما كان من شر حكمنا فيه حكم العدل، فلا تجاوز ولا شطح، ولا إفساح للعاطفة أن تسيطر على القلم، وتروي منابت مداده.
كان السلطان الغوري على المشهور من تجبر دولة المماليك،
من أكثر الحكام احتراما للعلماء الزاهدين الربانيين ذوي الرفعة والمقام العظيم في قول الحق، وإيثار الآخرة على الدنيا.
وإذا كان المقام يدعونا أن نسجل عظمة هؤلاء العلماء في الصدع بالحق في وجه السلطان، لدرجة الإغلاظ له في القول والزجر،
فإننا أبدا لا يمكن أن نغفل صبر وحلم هذا الحاكم، الذي تقبل النصح، وتحمل الزجر، ووأد غضبه، وكظم غيظه،
وهو ما روته الأخبار في سيرة هذا الحاكم من أخلاقه في احترام العلماء.
فمما يذكر:
أن الشيخ محمد الضيروطى المتوفى سنة ٩٢٣ هـ، شدد النكير يوما في إحدى مواعظه على السلطان الغوري في ترك الجهاد،
فبلغ السلطان ما قاله الشيخ، فبعث إليه واستدعاه ثم قال له: ماحملك على أن تذكرنى بالنقائص بين العوام؟ فقال الشيخ: نصرة الدين.
فقال الغورى: ما عندنا مراكب معدة للجهاد، فأغلظ الشيخ القول للسلطان وقال له: عمّر لك مراكب أو استأجر،
فاصفر لون السلطان الغورى وأمر للشيخ بعشرة آلاف دينار،
ولكن الشيخ ردها وقال:
أنا رجل تاجر، ولا احتاج إلى مالك – وكان الشيخ يتاجر في الأشربة والأدوية،
كما كان يرابط في برج بناه بثغر دمياط، وكانت دمياط آنئذ تقع على شاطئ البحر، فقال السلطان: عمّر بها في البرج،
فقال الشيخ أنا لا أحتاج إلى أحد يساعدني فيه، ولكن إن كنت محتاجا إلى شيء تصرفه في الجهاد، أقرضك وأصبر عليك،
وطال الجدل بين الشيخ والسلطان الغورى،
مما جعل الشيخ يغلظ الحديث للسلطان قائلا: أما تؤدى شكر ما أنعم الله به تعالى عليك؟
قال السلطان: فبماذا؟ فقال له الشيخ:
كنت كافرا فمن الله عليك بالإسلام، وكنت رقيقا فمن الله عليك بالعتق، ثم جعلك أميرا،
ثـم سلطانا ثم عن قريب يميتك وتكون أنفك في التراب،
ثم يحاسبك على النقير والقطمير وينادى عليك يوم القيامة: من له حق على الغورى؟
فيا طول تعبك هناك، فبكى السلطان.
أما الشيخ الدمياطي
المولود سنة 845 والمتوفى سنة ٩٢٨ هـ فقد جرت له محنة مع السلطان الغورى،
ذلك أن بعض التجار أودع عنده مالا كأمانة، وقال له: إذا بلغ ولدى بعد موتى مرحلة البلوغ فادفعه إليه،
فجاء الولد إلى الشيخ وهو دون البلوغ ، وطالب بالمال ،
فقال له الشيخ: حتى تبلغ، أي سوف أعطيك المال عند سن البلوغ،
فذهب الولد إلى السلطان الغورى الشيخ، فطلبه السلطان وطالبه بالوديعة،
فأنكرها وحلف على ذلك، فلما وصل الولد إلى سن البلوغ استدعاه الشيخ ودفع إليه المال، فعلم السلطان بذلك فطلبه
وقال له: كيف تحلف أنه ليس لديك وديعة، والآن أقررت بها،
فأجاب الشيخ: إن علماء الشافعية كالنووي في «الروضة»
قالوا: إن الظالم إذا طلب الوديعة من الوديع وخاف منه عليها، له أن ينكرها ويحلف على ذلك، وأنت ظالم.
وهكذا لم يتحرج الشيخ كما قيل: من مجابهة السلطان بما اعتقده فيه من صفات الظلم، ومن ثم في استعمال فتوى النووي في مثل هذا الموقف.
- حاتم سلامة يكتب: حكم الله أولا - الثلاثاء _21 _يونيو _2022AH 21-6-2022AD
- حاتم سلامة يكتب: «أبو حمالات» يهاجم الممثل الداعية - الأحد _19 _يونيو _2022AH 19-6-2022AD
- حاتم سلامة يكتب: ياله من رجل - الجمعة _20 _مايو _2022AH 20-5-2022AD