في مقالي السابق عن المؤرخ الكبير الأستاذ محمد عبد الله عنان، والذي كان بمثابة زلزال لدى كثير من القراء والأصدقاء، حتى أن بعضهم ممن أقدرهم وأجلهم تواصل معي وأخبرني أنني دمرت ثقته في الرجل، وأنه في حالة اندهاش، فقد كان يظنه ممن وهبوا أنفسهم لحماية الإسلام والتصدي للزيوف المنكرة الكاذبة التي تلحق بتاريخه، وذلك عبر موسوعته الأشهر عن دولة الإسلام في الأندلس، وأنه للأسف لا يقبل بالمنطقة الرمادية، فإما أن يكون أبيضا أو أسودا.
والحق أنني لا أريد أن أهدم الرجل، ولم يكن قصد مقالي أن أدمر هذه القيمة التاريخية الكبيرة، ولكني أصحح بعض المفاهيم، حتى لا ينجرف القراء بأهوائهم في اتجاه غير صحيح.
محمد عبد الله عنان مؤرخ كبير لا شك، ومصدر من مصادر التلقي الصادقة الصحيحة، ولكن كما قال الإمام مالك: (كل يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر) ولعل قولة مالك تنطبق بدقة على الأستاذ عنان رحمه الله، فعنان الذي كتب بروح المسلم عن دولة الإسلام في الأندلس، ورد على مؤرخي الغرب وبين أكاذيبهم في عبقرية مدهشة، هو نفسه عنان الذي وقع في أحابيل المؤرخين الغربيين، وصدق وردد كذبهم المفضوح والملفق عن الدولة العثمانية وخلافتها العالمية.
الرجل إذن لم يكن معصومًا، وكما نجح في ميدان، لكنه سقط في ميدان آخر، يعرفه المؤرخون المتحققون جيدا، وكما أنصحك اليوم بقراءة موسوعته في تاريخ الأندلس، فإني أنهاك وبشدة عن تصديقه فيما عتب عن العثمانيين.
لقد اعتمد على مصادر غربية وعدوة وغير منصفة لحقيقة العثمانيين، ولم يتحر كما فعل في تاريخ الدولة الإسلامية في الأندلس.
لقد نشر في مجلة الرسالة عام 1940مقالة قال فيها: «وإذا كان الإسلام لم يعتز قط بتركيا يوم كانت دولة قوية شامخة، فكيف يحاول اليوم أن يعتز بهذه البقية الضئيلة من تركيا القديمة»
وهذا كلام منكر لا شك فيه، فقد أعز الله الإسلام بالعثمانيين، وكانت فتوحاتهم في الشرق والغرب تعلي راية لا إله إلا الله محمد رسول الله. مما حدا بأمير البيان شكيب أرسلان أن يعبر في شعره عن هذا الهوى فقال:
أحبكم حب من يدري مواقفكم ** في خدمة الدين والإسلام من حقب
وهذا الكلام مما أفزع شيخ الإسلام مصطفى صبري وقام بالرد عليه ، وعنان رجل في قمة الغرابة، فالذي كتب التاريخ الأندلسي بروح المسلم، هو نفسه من كتب عن العثمانيين بروح المتغرب، مما يضعك في حيرة واستعجاب، فهل تعلم أنه كان مسرورا ومؤيدا للخطوات التي أعلنها الكماليون في هدم معال الإسلام.
لقد وصفه صبري بأن في قلبه مرض وعلى بصره غشاوة من معاداة آل عثمان، وأنت هنا تريد البحث عن السبب في عداء عنان للتاريخ العثماني وإسلامية تركيا، الذي كان موقفه فيه تغريبيا بامتياز، حتى أن المسألة لديه كما وصفه من اقتربوا منه، قد تحولت لمسألة نفسية، فقد كان لا يطيق اسم العثمانيين، وهو مما يدل على غلبة الهوى عند الرجل ، وهو الموقف الذي لابد أن يتنزه عنه مؤرخ موضوعي يبحث عن الحقيقة وحدها.
ولم يكن عنان يجهل صيحات الشخصيات المعتبرة من الشرق والغرب التي تدافع عن العثمانيين، وإنما كان يعلمها، ولكن الرجل كان في تحكم فيه هواه بقوة أمام جملة العثمانيون والإسلام.
ان بعض الأحبة قد راعهم اتهامي للرجل وإظهار ما أعلنه من عداوة الشريعة، وطالبني بعضهم بالتغاضي عن هذا الأمر حتى نظل نعتز بمؤرخينا الكبار، وكأن الرجل قد لقي رجلا في الطريق فسبه، أو أنه كان به بعض الهنات اليسيرة والمعايب الطفيفة التي لا تنكر قيمته، ولكن أفيقوا يا قوم ، فالرجل تعدى على الشريعة وكان له هواه التغريبي الذي اختلط بهواه الإسلامي، فإذا وجدت الإسلامي فلا يجوز لك أن تنكر التغريبي، وإذا أنكرت التغريبي فلا يجوز كذلك أن تنكر الإسلامي، ولكن تبقى الخطورة، فمن يباهون بعنان وسموه ويمنعون أي حديث منكر عنه حتى تظل قيمته التاريخية بازغة، أحب أن أقول لهم: ماذا بكم لو قرأت الأجيال كلامه في موقفه المنحرف عن العثمانيين؟ هل يسركم أن تتبنى الأجيال هذا الكذب الصراع على دولة خدمت الإسلام أكثر من 5 قرون.
ان عبد الرحمن عزام بك أمين الجامعة العربية سابقا، كان يشهد للقوم بما أجحفه عنان، حينما كتب في الهرام عام 1944م مقالا تحت عنوان آخر الخلفاء: «ولما وصل العثمانيون إلى شرق أوروبا وكلها سجون أبدية، يتوالد فيها الفلاحون للعبودية، كسروا أغلال السجون وأقاموا مكانها صرح الحرية الفردية، فهم من قضوا على نظام الإقطاع والأرستقراطية، ليحل محله نظام المواطن الحر، والرغبة المتساوية في الحقوق»
هكذا يكون الكلام، وهكذا يكون الصدق، أما أن نؤمن بأكاذيب الغربيين وافتراءتهم على الدولة العثمانية، فهذا ليس من الإنصاف في شيء.
ويبقى عنان في نهاية الأمر عدوا للدعوة إلى تطبيق الشريعة، ومن المؤمنين بعدم صلاحيتها العصرية، لا تنسوا هذا من فضلكم.!
- حاتم سلامة يكتب: أيها الكتاب.. إياكم والنساء - الأثنين _22 _مايو _2023AH 22-5-2023AD
- حاتم سلامة يكتب: القارئ المتوحش - الأحد _21 _مايو _2023AH 21-5-2023AD
- حاتم سلامة يكتب: الدين ليس مبيدا للصراصير؟ - الخميس _18 _مايو _2023AH 18-5-2023AD