النقد الأدبي يمكن له فعلا أن يَحط من قيمة كتاب أو يرفع من مكانته، وهذا النقد قد يرتكز أحيانا على دقائق علمية أو فنية، يمكن ان تكون مسار زلة في الكتاب أو الرواية، لكنها أبدا في أغلب الأحيان لا تهدم أو تمحو ما في الكتاب من إبداع وجهد يشهد له القاصي والداني.
وعلى مؤلف الكتاب أن يدرك دوما أن النقد مجرد رؤى واجتهادات ولفتات ترجع إلى الناقد وذائقته.. ولابد لنفسه أن تتحمل قدرا من التقبل والاستيعاب، دون شعور بالحزن والإحباط والضياع.
بل يدرك دوما أنه لا يوجد كتاب كامل إلا القرآن الكريم، وان صفة البشر تنطبق على كتبهم.
وقد يتعرض الناقد أحيانا لكتاب ألفه صديقه أو شخص يحبه ويقدره ويحترمه، وبينهما مودة وقبول، لكن الأمانة العلمية في ظروفها ومقتضياتها، لا تعترف بهذا الحب، وتتنكر له دوما، فالحب في القلوب والمهج، أما العلم والنقد، فله شأن آخر، لا صلة له به، لأنه يعني الأمانة، والأمانة مقدسة، فوق كل حب وكل تقدير، ولعله المنهج النبوي في السلوك بين الأشخاص، انصر أخاك ظالما او مظلوما.
منذ بضعة أسابيع، حضرت نقدا لكتاب حديث الأموات للأخ الكبير والناقد الجليل الدكتور أحمد فرحات آراء قد تبدو صادمة أو محزنة، يمكن أن يتخيلها السطحيون أنها أهدرت قيمة الكتاب، أو أنها أطاحت بمكانته وجهد صاحبه.
لكن الأمور أبدا لا تسير على هذه الرؤى الهينة، وقد تعجب أن الدكتور فرحات، قد قرظ نفس هذا الكتاب الذي انتقده، بمقدمة في طبعته الورقية، وقال فيه كلاما حسنا، وأشاد مقدرا جهد الكاتب ومنهجه وصنيعه.
لكن النقد شيء آخر وصنعة مغايره.
ومن قبل هذه الحادثة حضرت لناقد قدير حول رواية أدبية تناول بعض أفكار الرواية وأحوال أبطالها ووجهات أصحابها، كان النقد يبدو شديدا عنيفا، وربما أحزن أو ضايق مؤلف الرواية، لكن الناقد لم يكن يعني بحديثه أن يهدم الرواية وقيمتها الأدبية، ولكنها صنعة الأديب مرة ثانية، التي تبحث عن الكمال، وتستلفتها مواطن قد لا تستقيم مع ذائقة الناقد وأفكاره.
وأنا عن نفسي أبتعد كثيرا عن النقد وأصحابه فلا أطيقه ولا أضع نفسي في محله، لأن طاقتي وروحي لا تتقبله، وعلى من يقرأ لي أن يبحث عما يعجبه ويستهويه، وما يلمسه من مضار وهنات فليغفرها لي.
ولو أنني وُضعت في موضع الأديب الذي يتلقى النقد السلبي، فلربما كان أول عمل أفعله حال إيابي إلى البيت، أن أمزق كتابي، او أمتنع عن الكتابة بعدها قاطبة.
لكن الله تعالى قد منحني فراسة أستطيع التمييز بها بين النقد الهادف، والنقد الحاقد.
وأعود على ما بدأت، فأنا حينما أنقدك وأقسو عليك، فإن ذلك لا يعني أني أبغضك و أكرهك، أو أرجو تحطيمك وأبغي هلاكك.
وإنما كما قلنا.. تعلو الحقيقة والأمانة العلمية فوق كل اعتبار. فحينما ألف الأستاذ خالد محمد خالد كتابه (من هنا نبدأ) كان رد الشيخ الغزالي عليه عنيفا في كتابه (من هنا نعلم)، وقد تألم منه خالد أشد الإيلام كما ذكر في مذكراته.
وتحرك الدكتور شيخنا العلامة البيومي يتصل بالشيخ الغزالي ويقول له: الأستاذ خالد عزيز علينا، وهو منا ونحن منه، فلابد أن ترفق به، فابتسم الغزالي وقال له: وهو ما تقول يا رجب، ولكن المسألة قد خرجت عن نطاق الأستاذ خالد، حيث تلقفها خصوم الإسلام مصخمين، فنحن نريهم وجه الحق، والحق أحق أن يتبع.
وهكذا لم يعد للحب أي اعتبار، أمام حقائق العلم والفكر، وهو المنهج الذي وضعه من قبل الإمام ابن القيم، في شرحه لكلام الإمام الهَرَوي في مدارج السالكين:
(شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، وكل من عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم فمأخوذ مِنْ قوله ومتروك، ونحن نحمل كلامه على أحسن مَحَامِلِهِ. ثُمَّ نُبين مَا فِيهِ.)
- حاتم سلامة يكتب: بين محمود عمارة ومحمد عبده - السبت _3 _يونيو _2023AH 3-6-2023AD
- حاتم سلامة يكتب: اليابان العظيمة - الخميس _1 _يونيو _2023AH 1-6-2023AD
- حاتم سلامة يكتب: الذين غاب عنهم الأدب - الثلاثاء _30 _مايو _2023AH 30-5-2023AD