- الهيثم زعفان يكتب: مشروع تحرير المرأة في مائة عام (3) - الجمعة _22 _مايو _2020AH 22-5-2020AD
- الهيثم زعفان مشروع تحرير المرأة في مائة عام (2) - الخميس _7 _مايو _2020AH 7-5-2020AD
- الهيثم زعفان يكتب: مشروع تحرير المرأة في مائة عام (1) - الأربعاء _29 _أبريل _2020AH 29-4-2020AD
إن المتأمل لواقع العالم الإسلامي لا يمكنه إنكار حجم التغيرات التي حدثت لعدد غير قليل من نساء المسلمين، سواء على مستوى المظهر والملبس أو على مستوى السلوكيات، أو حتى على مستوى الأفكار والمكونات العقدية والقيمية المشكلة لعقول بعضهن والموجهة لمسار حياتهن العملية والاجتماعية بصفة خاصة.
أرقام وإحصائيات مرعبة تعكس واقعاً مؤلماً وشديد البعد عن المنهج الإسلامي، على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع. تغيرات لها مسبباتها المتعددة فالاحتلال الأجنبي ثم الحكم العلماني لهما الدور الأبرز في تكريسها، البعثات والتغريب لعبا دور مهماً في تعميقها، والحركات النسوية والتحركات الأممية عملا على تثبيت أركانها، وتوسيع درجات تغريبها وانحلالها وسلخ المرأة المسلمة عن دينها وقيمها.
وقد كان لسقوط دولة الخلافة الإسلامية -“الدولة العثمانية” على إثر الحرب العالمية الأولى- الدور الأبرز في ضعف مدافعة إفرازات الحركة النسوية التغريبية في العالم الإسلامي؛ فنتائج الحرب العالمية الأولى لم تقف عند الحدود العسكرية أو الجغرافية أو السياسية أو الاقتصادية، بل امتد انعكاسها على العالم الإسلامي ليشمل الحدود الاجتماعية والدينية، حيث وجدت الحركات النسوية التغريبية المناخ المجتمعي والسياسي الملائم لترجمة أفكارها التغريبية وبخاصة المخالفة للشريعة الإسلامية في صورة تطبيقات عملية وجدت لها الدعم السياسي والتمكيني من الساسة الجدد ورثة التركة العثمانية، بدءًا من تركيا عاصمة الخلافة العثمانية، مروراً بمصر بلد الأزهر الشريف، انتهاءً بباقي الدول الإسلامية التي كانت تشملها مظلة دولة الخلافة العثمانية المنكسرة في الحرب العالمية الأولى.
مائة عام أو يزيد من أنشطة الحركات النسوية في العالم الإسلامي عبر شخصيات تم تغريبها، ومؤسسات وجمعيات نسوية تم زرعها في بلدان العالم الإسلامي، وأموال محركة تم توفيرها، ضغوط على الحكومات وصناع القرار تم توظيفها وترجمتها في صورة تشريعات وتعيينات ومناهج تعليم، جميعها تدور وتدندن حول ذات الهدف الرئيسي وهو “تغريب المرأة المسلمة وتحريرها بنظرهم من أية ضوابط عقدية أو قيمية تضبط مسارها وتحول بينها وبين إشباع رغباتها واحتياجاتها دون ضوابط أو مراقبة”.
وسائل إعلام أنشئت خصيصاً للعب الدور الأهم في سلخ المرأة المسلمة من قيمها وعقيدتها عبر جملة من البرامج والمسلسلات والأفلام التي ضربت مصطلحات من قبيل الخلوة والأجنبي والمحرم في العمق، فزينت للمرأة الضعيفة والمغيبة فعل كل شيء تبغاه تحت مسمى الحرية؛ ودون الالتفات إلى قيم الإسلام وضوابطه الشرعية.
في العقود الأربعة المنصرمة بدأت قضية المرأة تأخذ بعداً أكثر عمقاً بسعي الحركات النسوية إلى عولمة النموذج النسوي الغربي على مستوى العالم فكانت ابتداءً المؤتمرات الدولية للاتفاق على وثيقة دولية موحدة تجمع النموذج النسوي الغربي المراد تعميمه بين دفتيها. ثم كانت اللعبة الأممية باستثمار “الأمم المتحدة” في جعل الإطار النسوي المتحرر من كافة الاعتبارات العقدية والشرعية وحتى القيمية ملزماً لكافة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. لتعمل المؤسسات النسوية محلياً والمدعومة مالياً وسياسياً بالتوازي مع الضغوطات الدولية.
لتأتي الثورات العربية في لحظة باغتة فتربك الحسابات النسوية وتنهي أسطورات داعمة مثل أسطورة السيدة الأولى.
في هذا الإطار التاريخي للحركة النسوية في العالم العربي وما يحويه من أهداف وآليات وتحولات سعت عبر مائة عام أو يزيد إلى “تغريب المرأة” كأحد أهم مكونات الصراع القيمي بين الغرب والإسلام، في هذا الإطار تدور الدراسة الراهنة الساعية عبر المنهج الوصفي التحليلي إلى استقراء واقع الحركة النسوية في العالم العربي من حيث النشأة والتكوين مروراً بالأهداف والآليات والأدوات انتهاءً بالآثار والمستقبل.
مشروع تحرير المرأة -النشأة والمنطلق
لعبت الثورة الفرنسية دورها الأبرز في وضع بذور الأفكار التحررية للمرأة الغربية، والتي ركزت في نشأتها على مساواة المرأة بالرجل في كافة القطاعات واستقلالها عنه في تصرفاتها وبخاصة فيما يتعلق بالاستقلال المالي.
وقد ساهم في تعزيز فكرة الاستقلال المالي؛ الثورة الصناعية وما أعقبها من حروب دولية خلفت ضحايا بملايين الرجال مما فرض على المرأة الغربية الخروج لميدان العمل لتدبير احتياجاتها الاقتصادية والأسرية.
وفي ظل العداء التاريخي مع الكنيسة واتخاذ العلمانية منهجاً للحياة في الغرب، وغياب القيم التربوية الدينية، فقد صاحب خروج المرأة الغربية للعمل كثير من التداعيات غير الأخلاقية، فمناخ الاختلاط بين الجنسين وفقدان الزوج في الحروب جعل مفهوم الحرية لدى المرأة يأخذ منحى انحرافياً تطورت أدواته بمرور الزمن، واتسعت رقعته لتشمل منظومة الأسرة الغربية المستقرة في ذلك الوقت؛ وكما تقول “فاليري ساندرز”: “فقد تولد لديهم إحساس بالاستياء المعاصر من حياة البيت التقليدية في ظل الزواج والأمومة، الأمر الذي ظهرت معه فكرة “المرأة الجديدة” والمنحدرة من فكرة “فتاة العصر المتمردة” التي ابتدعتها «ليزا لين لينتون» في عام 1868″.
وقد أخذت تلك الأفكار في البلورة العالمية، واستقطبت أجيالاً من النساء في الغرب اعتنقنها وبشرن بها، ونُقلت للشرق الإسلامي عن طريق المبتعثين، المستشرقين، والمستعمرين بحُلتها التحررية كاملة، وكانت البداية من مصر ثم انتشرت في أرجاء البلاد العربية والإسلامية.
المرأة المسلمة بين واقع أليم وتغريب مهين:
لا شك أن واقع المرأة المسلمة في هذا التوقيت كان فيه بعض الظلم المجتمعي المرتبط بالأوضاع السياسية والاجتماعية للبلدان الإسلامية في هذه الأثناء، من ضعف لتعليم المرأة وما أعقب ذلك من جهل بكثير من العلوم وبخاصة تعاليم الشريعة الإسلامية وما يتعلق بها من تكاليف شرعية، وضوابط عقدية خاصة فيما يرتبط بالسحر والاستغاثة بالأضرحة والتعامل الجاهل مع المرض، أيضاً ظلمها أحياناً في قضايا المواريث.
لكن ذلك لم يكن أبداً ليواجه بسلخ المرأة كلية عن دينها وحياؤها بذريعة الحفاظ على حقوقها؛ لأنه على الرغم من هذا الواقع الأليم فإن المرأة في هذا التوقيت كانت شديدة التمسك بما يصل إلى علمها من صحيح الدين وما ورثته عن آبائها ومجتمعها من الحفاظ على عفتها وحيائها في الملبس والسلوك، والتزامها بضوابط الخروج من المنزل والاختلاط بالرجال.
ومن ثم كان يمكن لدعوات معالجة القضايا المهدر فيها حق المرأة المسلمة أن تكون وفق الضوابط الشرعية المنظمة لحياة المرأة المسلمة، دون الإخلال بالمنظومة القيمية للمجتمعات الإسلامية آنذاك.
بدايات التغريب وطرح الأفكار التحررية
هذا وقد شهد العالم العربي والإسلامي نشاطاً بارزاً في مقام تغريب المرأة المسلمة فكان للبعثات الأجنبية الدور الأول في وضع لبنات التغريب في العالم العربي والإسلامي، وغير خفي انبهار الطهطاوي وغيره من المبتعثين بانحلال وتحرر المرأة الفرنسية من أية قيود تضبط مسارها، وأمنيته أن يرى بنات قومه مثلهن.
ثم جاءت الصالونات الثقافية المدعومة من الاحتلال البريطاني ليتجمع فيها دعاة التغريب من المبتعثين وغيرهم من المنبهرين بالحضارة الغربية، لينظروا كيف يمكن لهم نقل كافة مكونات هذه الحضارة الغربية إلى الشرق المسلم. قافزين فوق أية اعتبارات عقدية أو شرعية تضبط مسار هذه المكونات الغربية أو تصطدم معها في أحيان كثيرة؛ فكان لصالون الأميرة نازلي فاضل- تلك المرأة المتغربة التي شكلت حلقة وصل ثلاثية ما بين الاحتلال البريطاني، والأسرة الحاكمة في دولة الخلافة، ودعاة التغريب في مصر والعالم العربي – الدور الأبرز في فتح الثغرات لهذه الأفكار التحررية الغربية داخل المجتمع المصري، وعقول متعلميه ومثقفيه. لتنتشر بعد ذلك الكتابات النسوية الصادمة لقيم المجتمعات العربية والإسلامية وبخاصة كتاب مرقص فهمي(المرأة في الشرق)، وكتابا قاسم أمين (تحرير المرأة، والمرأة الجديدة). والتي دارت في معظمها حول مطالبات بقضايا صادمة لقيم المجتمعات الإسلامية تمثلت أبرزها في: ( السفور وخلع الحجاب- الاختلاط بين الجنسين في كل القطاعات- تحرر المرأة من ملابسها في المصايف- منع تعدد الزوجات- رفع سن الزواج- إباحة زواج المسلمة من النصراني- سفر المرأة داخلياً وخارجياً بدون محرم- ارتياد المرأة لقطاعات التمثيل والغناء بالسينما والمسرح- والسعي لتقليد المرأة الغربية في تحررها من القيود المجتمعية حتى ولو كانت شرعية). وغيرها من القضايا الصادمة التي أخذت في البلورة العملية بصورة شديدة السرعة.
التطبيقات العملية للأفكار التحررية في دول الخلافة الإسلامية
أخذت الأفكار التحررية التغريبية المتعلقة بالمرأة في البلورة العملية بصورة شديدة السرعة داخل المجتمعات العربية والإسلامية؛ فنزعت زوجات من عُرفن بالزعماء والوجهاء حجابهن حيث دعا “سعد زغلول” النساء اللاتي يحضرن خطبه، أن يُزحن النقاب عن وجوههن “فهو الذي نزع الحجاب عن وجه نور الهدى محمد سلطان والتي اشتهرت باسم هدى شعراوي، وذلك عند استقبال حشد كبير من النساء له في الإسكندرية بعد عودته من المنفى، ثم ألقت بحجابها في مياه البحر “. ويمجد أدعياء التحرر في العالم الإسلامي هذه الحادثة ويعتبرونها “إيذانًا بدخول المرأة عصر النور”.
وخرج علينا “كمال أتاتورك” بعد إعلانه سقوط الخلافة الإسلامية ليجبر نساء أنقرة على نبذ الحجاب، وخرجت زوجته سافرة ترتدي مثل ثياب الرجال، وتحرض نساء أنقرة على المطالبة بمساوتهن بالجنس الآخر. كما أمرت حكومة “كمال أتاتورك” بإزالة الحواجز الفاصلة بين مقاعد الرجال والنساء في الترامات والسفن وسائر المراكب فأزيلت!!. ثم جاء مشروعه الناهي عن تعدد الزوجات، وقد أحله الله في كتابه (مثنى وثلاث ورباع). ومشروعه الناهي عن الزواج لأقل من سبع عشرة أو ثماني عشر حتى اقتفت الحكومة المصرية أثر هذه السنة السيئة.
أدوات نشيطات الحركة النسوية
أخذت نشيطات الحركة النسوية ودعاة الأفكار التحررية بعد ذلك في تأسيس الاتحادات النسائية المروجة لتلك الأفكار مثل ( الاتحاد النسائي والذي أسسته هدى شعراوي، واتحاد بنت النيل لمؤسسته درية شفيق وغيرها من المؤسسات النسوية) وسعين عبر القوافل والأنشطة المجتمعية في نشر قضايهن التحررية الهادفة إلى تغريب المرأة المسلمة في ربوع مدن وقرى المجتمعات الإسلامية.
وانتشرت كذلك الصحافة النسائية المروجة للأفكار التحررية مثل ( الفتاة، مجلة السيدات، مجلة فتاة الشرق، مجلة ترقية المرأة، مجلة الجنس اللطيف وغيرها).
وكثرت فيها المقالات الهوائية والانحلالية المتحررة من أية ضوابط شرعية تضبط مسارها الفكري والعملي.
وبحسب كتاب “الحركة النسائية الحديثة” تحددت أهم أهداف هذه الصحف والمجلات النسائية في:
1- مداد المرأة الشرقية بالوسائط الأدبية كي تكون في يوم ما في مستوى واحد مع المرأة الغربية.
2- تفهيمها حالة الوسط الناشئة فيه ومركزها بالنسبة للرجل.
3- السعي لتحرير المرأة المصرية من قيود العادات والتقاليد الضارة بنظرهم.
4- السعي لنشر السفور ” المحتشم!!” وتعضيده.
5- السعي لتقرير تمتع المرأة باستقلالها الشخصي وحريتها كالرجل.
6- السعي لاستصدار قانون بتعديل شروط الزواج والطلاق، ثم قانون آخر لمنع تعدد الزوجات.
7- السعي لإشراك المرأة في جميع المجتمعات والحفلات العامة الرسمية وغير الرسمية.
- ثمرات الأفكار النسوية التحررية التغريبية
على الرغم من تعلم المرأة المسلمة في هذه الأثناء لبعض العلوم النافعة، وعملها في بعض القطاعات طيبة المطعم- وهو أمر معقد لا يمكن أن ينسب الفضل فيه كلية للحركة النسوية كما يدعون- إلا أنه قد كان للجهود التحررية التغريبية ثمرات فاسدة كثيرة في المجتمعات الإسلامية، وكان هناك الكثير والكثير من المفاسد المصاحبة لدعوات تحرير المرأة، حيث انتشر السفور والاختلاط، واندثرت كثير من معالم مصطلح الخلوة والأجنبي، وماتت الغيرة لدى الكثير من رجال الأمة، ودخلت المرأة قطاع السينما والمسرح والمراقص وما صاحبه من مفاسد انعكست على الواقع المجتمعي والأخلاقي بين الرجال والنساء والشباب والفتيات.
واختل ميزان المساواة الشرعية بين الرجل والمرأة، فعُدلت القوانين التي تضبط إيقاع الأسرة، فجُرِّم الحلال وزُينت الشهوات، فاهتزت قوامة الرجل، واعوجَّ على أثرها البنيان الأسري لكثير من الأسر المسلمة.
“يتبع”