١ ـ ربى الإسلام أبناءه على العقلانية والتدبر واتباع الدليل والأسلوب العلمي في بناء الآراء والأفكار وفي تحديد المواقف تجاه القضايا وتجاه الحكم على الناس وعلى الأشياء.
٢ ـ قال تعالى في كتابه الكريم: [فَرَجَعُوۤا۟ إِلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ فَقَالُوۤا۟ إِنَّكُمۡ أَنتُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ] الأنبياء: ٦٤.
فقوم أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، لما طلب منهم أن يسألوا أصنامهم حتى يجيبوهم إن كانوا ينطقون… رجعوا إلى أنفسهم بالتفكر والتأمل، فتبيّن لهم أن أصنامهم لا تنفع ولا تضر بل لا تنطق، وأنهم كانوا ظالمين مشركين حين عبدوها من دون الله.
٣ ـ وهذه الدعوة القرآنية ليست أمرًا خاصًا بقوم إبراهيم عليه السلام، بل هي دعوة قرآنية لتأسيس النقد الذاتي والمراجعة المنظمة والمستمرة، يوجهها القرآن للمؤمنين به كافة، لمراجعة ما قاموا به من أعمال، ولما يعتقدوه من أفكار، ولما يتخذوه من وسائل.
٤ ـ ومن أسس المراجعة والتدقيق والنقد الذاتي، حذر القرآن من الانسياق وراء التفكير الجمعي والعقل الجمعي وإهمال التفكير الفردي والضمير الفردي، فقال:
[قُلۡ إِنَّمَاۤ أَعِظُكُم بِوٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُوا۟ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا۟ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِیر لَّكُم بَیۡنَ یَدَیۡ عَذَاب شَدِید] (سبأ: ٤٦(.
فالقرآن الكريم يأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يقول لمشركي قريش المكذبين المعاندين: إنما أنصحكم بخَصْلة واحدة أن تنهضوا في طاعة الله اثنين اثنين وواحدًا واحدًا، ثم تتفكروا في حال صاحبكم رسول الله وفيما نسب إليه، فما به من جنون، ما هو إلا نذير لكم من عذاب جهنم قبل أن تقاسوه.
نمطية التفكير
٥ ـ وهذا تحذير من خطورة نمطية التفكير ووحدة السلوك والتصرف تجاه الأمور، نتيجة التفكير الجماعي
الذي يصبغ عقل الجموع معطلًا فردية التفكير، فالعقل الجمعي يطبع عقول أعضائه بطابعه المشترك،
ويجعلهم يفكرون عند اجتماعهم بأسلوب مخالف لتفكيرهم عند الانفراد، فيتعطل التفكير الفردي
ويتشكل رأي أو فكرة محددة تنتقل بانسيابية وسلاسة إلى عقول مجموعة من البشر وهم لا يشعرون.
٦ ـ فرسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الآية الكريمة، ينصح مشركي مكة أن يقوموا لله مثني وفرادى
(أي يختلي كل منهم بنفسه فقط أو يكون معه واحد غيره على الأكثر)
مبتعدين عن ثقافة القطيع والعقل الجمعي الفاسد،
الذي يشل ويعطل التفكير الفردي وبالتالي يعطل الوصول والاهتداء إلى الحق،
ليقوموا إلى رحابة الفكر الفردي وتحرير العقل بعيدًا عن مؤثرات المجموع، فينتج التفكير المتحرر،
معلنًا حريته من قيد وأسر العقل الجمعي الغالب، فيهتدوا إلى أن صاحبهم ليس مجنونًا كما يزعم المجموع، بل هو نذير مبين،
وهم لن يستطيعوا أن يصلوا إلى هذا أثناء تواجدهم ووقوعهم في شباك أسر المجموع وتأثيراته النفسية والاجتماعية والعاطفية عليهم.
خطورة التجمع على الضلال
٧ ـ فالقرآن الكريم يحذر من خطورة التجمع على الضلال وخطورة العقل الجمعي
وأثره في نسج سحابة من التضليل تحول دون تحرر العقل الفردي ليتجه إلى الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها.
٨ ـ إن تركيب العقل الجمعي إنما هو نتاج لقيم وأفكار سائدة، تجمع العقول الفردية وتصهر بعضها إلى بعض،
ليجتمعوا على الإيمان بتلك القيم والأفكار،
ليتشكل عقل واحد له سماته وتركيبه الخاص والذي يتمايز به عن العقل الفردي،
ولا يخفى أثر ثقافة القطيع وسطوة الرأي الجمعي وما يستتبع ذلك من نتائج.
ولعل هذا يبين ويفسر أسباب ضلال مجتمعات يسودها العلم والمنهج العلمي،
أو ضلال وكفر علماء كبار وأطباء ومهندسين وفلاسفة ومفكرين ومعلمين وأمثالهم.
أدلة ضلال العقل
٩ ـ ومن أدلة ضلال العقل الجمعي، أن المشركين يتمسكون بما كان عليه آباؤهم ـ رغم إنه كان هو الكفر والشرك والخطأ ـ ويشجع بعضهم بعضًا على ذلك،
بل يخاف بعضهم من بعض، فربما كان الكثيرون منهم غير راضين عن الثقافة الجمعية ولكنهم يخافون من مغبة وتداعيات مخالفة المجموع،
وهنا تظهر ظاهرة “النفاق الاجتماعي”..
وصدق الله القائل:
[وَإِذَا قِیلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا۟ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا۟ بَلۡ نَتَّبِعُ مَاۤ أَلۡفَیۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَاۤۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَاۤؤُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَهۡتَدُونَ] البقرة: ١٧٠.
لا تجتمع أمتي على ضلالة
١٠ ـ أما قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) فإن دلالته أنه في قضية الإيمان والهداية الكبرى فإن الله قد رزق هذه الأمة الإيمان والهدى وجعلها بفضله خير أمة أخرجت للناس،
فبعث فيها خاتم الأنبياء والمرسلين الذي علمها وهداها ولقنها المنهج والأسس التي متى طبقتها فإنها ستهتدي إلى الحق ولن تضل أبدًا.
لكن الضلال موجود في هذه الأمة لمن زاغ عن هذا المنهج وعن هذه الأسس التي بينها ووضحها رسول الإسلام، صلى الله عليه وسلم.
فلا تزال طائفة من هذه الأمة قائمة على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتيَ أمر الله وهم على ذلك،
وقد تحقق لهذه الطائفة ذلك بالتمسك بالمنهج والأسس التي أشرنا إليها.
فإذا وجد في هذه الأمة من يضل ففيها من هو مهتد إلى طريق الهدى، وصدق الله القائل:
[فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ] الأنعام: ٨٩.
١١ ـ وفي النهاية، فإن الإسلام لا يرضى للمسلم مسايرة الركب، أو السباحة مع التيار، أو العجز والاستسلام، فيكون كالريشة في مهب الريح،
إنما يحث الإسلام المسلم على بذل الجهد واستفراغ الوسع والاستقلالية والتأمل والتدبر والاجتهاد الفكري (قدر الإمكان)،
وألا يكون إمعة عاجزًا تابعًا لكل أحد، لا يستطيع تبين طريقه وفرز الآراء والأفكار وفحصها،
حتى لا يلعب به المتلاعبون من أهل الأهواء والأفكار الهدامة والفلسفات الضالة.
فالمسلم لديه المنهج، والميراث العلمي العظيم، والضوابط العاصمة، التي يحكم بها، ويتحاكم إليها، ويهتدي بها.
- السيد أبو داود يكتب: حينما سلّم أحفاد صلاح الدين القدس للصليبيبن!! - الأربعاء _11 _مايو _2022AH 11-5-2022AD
- السيد أبو داود يكتب: مآلات ونتائج تقييد حركة الأمة - الخميس _28 _أبريل _2022AH 28-4-2022AD
- السيد أبو داود يكتب: النقد الذاتي في المنهج الإسلامي - الجمعة _15 _أبريل _2022AH 15-4-2022AD