- إبراهيم أبو عواد يكتب: الفعل الاجتماعي والتجانس المركزي والمناهج اللغوية - السبت _21 _يناير _2023AH 21-1-2023AD
- إبراهيم أبو عواد يكتب: الوعي الثقافي والفعل الاجتماعي والعقل الجمعي - الأحد _8 _يناير _2023AH 8-1-2023AD
- إبراهيم أبو عواد يكتب: فلسفة التاريخ في التفاعلات الرمزية للعلاقات الاجتماعية - السبت _31 _ديسمبر _2022AH 31-12-2022AD
(1)
الطاقةُ الرمزية في اللغة تحدِّد أشكالَ المعرفة في المجتمع، وتؤَسِّس منظومةَ المعايير الأخلاقية في السلوك الإنساني، وتَبْني أركانَ سلطة الوحدة الاجتماعية، باعتبارها مَنبع الشعور الجَمَاعي بالولاءِ للحقيقة، والانتماءِ إلى المعنى.
وإذا كان الرمزُ هو قلبَ اللغة النابض، فإنَّ الهُوية هي شخصية المجتمع الحَيَّة.
وإذا اندمجَ الرمزُ اللغوي معَ الهُوية الاجتماعية، فإنَّ ظواهر ثقافية سَتُولَد، وتنمو في فلسفة الوَعْي،
وتطوِّر أدواتها وأساليبها من أجل الوصول إلى مصادر المعرفة، وسِمَات الذات الإنسانية.
وهذا مِن شأنه إيجاد تفسيرات جديدة للحياة الاجتماعية، وعلاقتها معَ وظيفة اللغة في تاريخ الوجود فِكْرًا وممَارَسَةً،
وارتباطها بمركزية الإنسان في وجود التاريخ منهجًا وسلوكًا.
ولا يمكن تكوين بنية تفسيرية للعناصر التاريخية والمركَّبات الوجودية، إلا بتحديدِ الأساس الفلسفي لعملية تأويل العلاقات الاجتماعية، وتَتَبُّعِ مسار الوَعْي في تاريخ المعنى الإنساني، وهذا الأمر ضروري، لأنه يرسم الحدودَ الفاصلة بين وجود الإنسان وأفكاره.
وبما أنَّ كل وجود ينتِج وَعْيًا خَاصًّا به، فلا بد أن يَدخل تاريخُ الإنسان في صَيرورة مستمرة
(الانتقال الدائم مِن الهوية إلى السلوك، ومِن الكَينونة إلى الكِيان، ومِن الخيال إلى الواقع، ومِن المنهج إلى الحركة، ومِن الدليل إلى المَدلول).
(2)
الإشكاليةُ في الحياة الاجتماعية تتجلَّى في عَودة الفرد -الذي لا يَشعر بوجوده في الحاضر- إلى الماضي بحثًا عن هويته.
وهذه العمليةُ -في الحقيقة- تمثِّل هروبًا مِن الهُوية، لأنَّ الهوية كَينونة وجودية اعتبارية قائمة على الوَعْي بالذاتِ والعناصرِ المحيطة بها، وطبيعةُ الهوية ذاتيَّة غَير مَحصورة في العصور الزمنيَّة والأطُر المكانيَّة.
وكل فرد ينبغي أن يَبني نَفْسَه في حاضره المَحسوس، وإذا عَجَزَ عن إيجاد حاضره فلن يجد ماضيه.
وإذا لَم يَعرِف الفردُ نَفْسَه فلا فائدة مِن التَّغَنِّي بأمجاد آبائه.
والهويةُ لَيست هروبًا عَبْر الأزمنة الماضية، أوْ فِرَارًا إلى الأمكنة البعيدة، ولَيست شيئًا ضائعًا في تراكمات التاريخ كي نبحث عنه، أوْ حلْمًا تائهًا في أنقاض المشاعر الإنسانية كي نحاول استعادته، أوْ جثَّةً مجهولة تنتظر التَّنَفُّسَ الاصطناعي.
إنَّ الهوية كِيَانٌ قائم بذاته لا يسجَن في الزمان والمكان، وبناءٌ وجودي مستمر لا يحصَر في الأهواء الذاتية والمصالح الشخصية.
(3)
فلا يَنبغي للإنسان أن يَبحث عن نَفْسِه خارجَ نَفْسِه، لأن وجود الإنسان هو شرعيته غَير المستمدة من العناصر الخارجية.
ولا يَنبغي أن تبحث الظواهرُ الثقافية عن التاريخ خارجَ التاريخ، لتأسيس منظومة فكرية منقطعة عن صراعات الماضي، ومنفصِلة عن تَحَدِّيات الحاضر.
إنَّ الإنسان هو التاريخ، ومهمةُ الظواهر الثقافية هي البحث عن تاريخ المعنى في داخل الإنسان (الإنسان مَنظورًا إلَيه مِن الداخل).
وإذا كانت هويةُ الإنسان هي البَصمةَ الوجودية المميِّزة له، فإنَّ هوية التاريخ هي التراكم المعرفي ضِمن مركزية اللغة العابرة للتجنيس.
وبالتالي، يصبح الوجودُ الإنساني صِياغةً مستمرة لسلطة المعرفة في التاريخ،
الذي تَكشِف عنه الطاقةُ الرمزية في اللغة، التي تَعمل على مَنْعِ الوَعْي التاريخي مِن التَّشَظِّي، وحمايةِ الذات الإنسانية مِن الانقسام.
وإذا أردنا تحليلَ الوجود الإنساني المحَاصَر بضغوطات الواقع المعاش، يجب عدم دراسة التاريخ كجسد ثقافي متماسك،
وإنما دراسة تَصَدُّعات التاريخ وانكسارات المعنى، مِن أجل تحديد نقاط الاتصال والانفصال في مسار التاريخ كسلطة معرفية، ومسارِ وَعْي الإنسان بالتاريخ كمنهج أخلاقي.
والشّروخُ في جسد التاريخ هي التي تكشف حقيقته، كما يَكشِف المرضُ حقيقةَ الإنسان، ويظهِر مستوى جهاز المناعة.
وفي حقيقة الأمر، نحن لا نتعامل مع التاريخ كوحدة واحدة وبنية متماسكة وكتلة متَرَاصَّة،
وإنما نتعامل مع تأثيرات التاريخ على المجتمع، وانعكاسات الماضي على الحاضر، وهذه العملية تشبِه الوقوفَ أمام المِرْآة،
ووجودها لَيس مَقصودًا لذاته، لأنَّ وظيفة المِرْآة هي عكس الصورة، ولَيس إنشاء صورة جديدة.
وفي كثير من الأحيان، يصبح التاريخُ مِثل البركان، نهتمُّ بالحِمَم المُنبعثة مِنه، ولا نفكِّر في النُّزول إلى فوَّهته أوْ تحليل تضاريسه.
وقد يصبح التاريخُ مِثل الزِّلزال، نهتمُّ بالاهتزازات وتشقُّقات الأرض،ولا نفكِّر في التركيب الجيولوجي للصخور.