مع قدوم شهر يناير كل عام تتزاحم الذكريات ويختلط فيها الشأن العام بالتجربة الشخصية حيث لا يستطيع المرء أن ينأى بنفسه خارج المحيط الذي يتحرك فيه. وكلما ابتعد مكان السكن والإقامة عن العاصمة قبلة النخبة وصُنّاع الأحداث ومقرّ أهل الحكم وصفوة المجتمع، تقل الفرصة في وجود تجربة شخصية تحكي سيرة الزمان وتشابك الأحداث المؤثرة في مصائر الدول والحكومات، إلا فيما ندر!.
ومن ذلك القليل النادر، أروي قصة مقال اليوم التي بدأت بدعوة من صديقي المثقف الذي يكبرني بعشرة أعوام للمشاركة في الوقفة التضامنية بعد صلاة الجمعة ٩ يناير ٢٠٠٩م، الموافق ١٢ محرم ١٤٣٠هـ، وتُنظّمها جماعة الإخوان المسلمين في محيط مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية، احتجاجًا على الموقف المخزي للنظام المصري من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ودعمًا لصمود إخواننا الفلسطينيين في #محنتهم_المزدوجة آنذاك!.
وأَيُّ سوءة أعظم من كون معاناة الشعب الفلسطيني مزدوجة؛ حيث يعاني من الإجرام الصهيوني وهذا من طبائع الاحتلال في كل مكان وزمان، أما غير المُبرّر فهو أن تتولد المعاناة من جرّاء الحصار المفروض عليها من الحكومة المصرية الشقيقة المتواطئة مع العدوّ الإسرائيلي!.
ومن ثمّ تحركتُ قبل صلاة الجمعة بنحو الساعة والنصف لبعد المسافة عن مسجد القائد إبراهيم ومعي صديقي النبيل المهموم بأمر هذه الأمة، والذي عرفتُ فيه الرَاحِلَة المنشودة في حديث رسول اللهﷺ: «إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَة، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً»، من أجل المشاركة في التظاهرة وتكثير سواد المسلمين..
وقبل الاسترسال أرى من الضروري لفهم ما حدث وقتها، معرفة الخلفية التاريخية والسياسية للعدوان والتي يمكن اختصارها في أن المقاومة الإسـلامية بشقيها حـماس والجـهاد، نجحت بعد كفاح طويل ودماء غالية في إجبار حكومة الاحتلال على تفكيك وإخلاء مستوطناتها، والانسحاب من قطاع غزة في أغسطس من العام ٢٠٠٥م، وقد صرّح رئيس الوزراء “أرئيل شارون” حينها بأنه كان يأمل في الإبقاء على المستوطنات الإسرائيلية في غزة، إلا أن الواقع حتّم عليه العكس، وبرر ذلك قائلا: «اتخاذ هذه الخطوة أمر خارج عن الإرادة وليس ضعفًا، فالانسحاب جاء تحت ضغط الوضع الأمني المتردي، و #مُعاناة_المسـتوطنين!.»
وهو ما أدى إلى ازدياد حالة الفتك بالشعب الفلسطيني المصلوب، وبشتى الوسائل من حصارٍ وتدميرٍ وقتلٍ واعتقال، بعد أن استفرد به الإسـرائيليون وتخلي عنه الجميع!.
وكردِّ فعل مشروع قامت المقاومة بعملية ضد قوات العدوّ سنة ٢٠٠٦م، أسرت فيها المُجند “جلعاد شاليط” واحتفظت به في مكان سري، من أجل استخدامه كورقة ضغط لإجبار الحكومة العبرية على تحرير المئات من الأسرى الفلسطينيين القابعين في سجونه..
وقد رفضت إسـ.رائيل عقد الصفقة بكل استعلاء وتجبر، وقامت بغارات جوية عنيفة في عداونٍ غاشم على القطاع في مطلع العام ٢٠٠٨م، حتى بلغت بهم الوحشية في منع المساعدات الإنسانية عن الشعب الفلسطيني، لدرجة إعلان المسئولين عن برنامج الأغذية العالمي (WFP) التابع للأمم المتحدة عجزهم عن إدخال الإمدادات الغذائية للقطاع ما بين الجمعة ١٨ يناير والاثنين ٢١ يناير ٢٠٠٨م، مما نتج عنه أزمة غذائية خطيرة هددت حياة الغزّاويين!.
وعلى الرغم من كل ذلك صمد الشعب الفلسطيني الأبيّ مُلتفًا حول المقا*ومة الإسـلامية مما اضطر اليـ.هود إلى اللجوء لحلفائهم في النظام المصري برئاسة حسني مبارك #كنز_إسرائيل_الإستراتيجي ، من أجل المساعدة في الإفراج عن “جلعاد شاليط”!.
فأسرع الرئيس “مبارك” إلى التلبية مُسندًا عملية استعادة شاليط إلى اللواء “عمر سليمان” مدير المخابرات والمسئول عن الملف الفلسطيني، والذي بذل جهدا كبيرًا في الضغط على المقاو*مة وإقناعها بعقد صفقة لتبادل الأسرى تُشرِف عليها مصر، التي سبق لها في العام ٢٠٠٤م بعقد صفقة هزيلة مع حكومة العدو وتسليمها الجاسوس الإسـ.رائيلي “عزام عزام” في مقابل ستة طلاب مصريين قيل أنهم كانوا تائهين في سيناء حتى وجدتهم دورية إسـ.رائيلية وقامت باعتقالهم!.
والعجيب أن حـزب الله اللبناني قام في يناير من نفس العام ٢٠٠٤م، بعقد صفقة تبادلية أجبر فيها الصهاينة على إطلاق ٤٣٦ أسيرا منهم ٤٠٠ فلسطيني في مقابل عسكري سابق في جيش الاحتلال هو “الحنان تتنباوم”!.
ولما رفضت حما*س إجراء الصفقة بالطريقة المصرية الهزيلة والهزلية، متطلعة إلى الاقتداء بالنموذج اللبناني، شنّت قوات الاحتلال حربًا شاملة واسعة على قطاع غزة، بدأت في ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٨م، وعُرفت باسم #عملية_الرصاص_المصبوب واستمرت نحو ٢٣ يومًا كاملة، قبل أن تتوقف بضغوط دولية بعد قتل ١٥٠٠ شهيد ودمار هائل في البنية التحتية بقطاع غزة، فضلا عن آلاف المصابين الذين تعرض بعضهم لاستجوابات حقيرة أثناء العلاج في مستشفيات العريش من أجل الإدلاء بأي معلومات تؤدي للكشف عن مكان “شاليط”!.
والأفدح من ذلك إصرار “مبارك” على عدم دخول المساعدات الطبية والغذائية القادمة من الخارج، لأهالي غزة وتشديد الحصار عليهم، رغم المناشدات الدولية بفتح معبر رفح أثناء العدوان، مما دفع مائة عالم وداعية من علماء الأمة الإسـلامية إلي إصدار بيان بكفره وردته من أجل ذلك!.
وبعد هذا المُلخص السريع نعود إلى وقفتنا في ساحة مسجد القائد إبراهيم التي بدأت فعالياتها فور الانتهاء من الصلاة، حيث جاء شباب الإخوان بالشيخ أحمد المحلاوي -حفظه الله- وكان وقتها في الرابعة والثمانين من عمره، من أجل أن يخطب في تلك الحشود الغفيرة التي لم أر مثلها من قبل، وقد قدرتها قناة الجزيرة في شريط الأخبار بأكثر من خمسين ألفاً!.
وكانت هذه هى المرة الأولى التي أرى فيها الشيخ الفقيه أحمد المحلاوي حيث لم أكن ولدت بعد عندما كان أشهر داعية وإمام مسجد في مصر وربما في العالم العربي والإسلامي أيضا. لأنه الشيخ الذي وقف الرئيس الأسبق محمد أنور السادات في مجلس الشعب يهاجمه في خطابه الشهير الذي استمر لأكثر من ساعتين ونصف وتناقلته جميع وسائل الإعلام المحلية والعالمية على الهواء مباشرة يوم ٥ سبتمبر ١٩٨١م، منها نصف ساعة كاملة أخذ السادات يبرر لماذا اعتقل الشيخ ولم يقدمه إلى القضاء كما هو متبع، بل آثر إحالته إلى المدعي العام الاشتراكي حتى يكون التحقيق سياسيًّا لا حقوق للمتهم فيه!.
ومن ضمن مآخذ السادات على الشيخ المحلاوي أنه خطب في الناس بتاريخ ٣٠ يناير ١٩٨١م يُحرّض ضد رئيس الجمهورية ويقول إنه إذا كان يُصيّف في الإسكندرية ويذهب إلى أسوان في الشتاء فلن يشعر بمعاناة الشعب!. كما انتقد الشيخ ما وصفه بالسفه في الإنفاق في احتفالات عيد الشرطة في ٢٥ يناير والتكاليف الباهظة التي تكلفتها خزينة الدولة جرّاء ذلك، مثل ما سبق حدوثه قبلها في الاحتفال الضخم بافتتاح تفريعة قناة السويس الجديدة في ديسمبر سنة ١٩٨٠م، فضلا عن الإنفاق ببذخ على الاستراحات الرئاسية وكثرتها!.
كما استنكر “السادات” في خطابه هجوم “المحلاوي” على الحزب الوطني ووصفه بعدم ممارسة الديمقراطية في مصر، وتزوير الانتخابات، وفي النهاية ثارت ثائرة “السادات” عندما وصل إلى رفض الشيخ للاتفاقية مع الصـ.هاينة، فوصفه السادات بالسفالة والبذاءة وتوعده قائلا: «لن أرحمه»!.. قبل أن يختم كلامه عن الشيخ العالم الجليل بمقولته الشهيرة -التي تسببت فى قتله بعد شهر واحد فقط من التفوه بها- «فلما منعناه من الخطابة، شباب الجماعات الإسلامية ذهبوا إليه وقالوا له اخطب ولا يهمك ونحن نقف معك، #أهو_مَرمي_في_السجن_زَيّ_الكلب»!..
وبعد هلاك “السادات” أُفرج عن الشيخ أحمد المحلاوي شأن غالبية المعتقلين في أحداث سبتمبر، ولكن مع منعه من الخطابة وعدم عودته إلى مسجد القائد إبراهيم تارة أخرى. فكانت هذه هى المرة الأولى بعد ٢٧ سنة، التي يخطب فيها هناك ولكن على سلم المسجد الخارجي وبعد انقضاء الصلاة!..
والتي تكررت بعد زوال حكم «مبارك» على إثر ثورة يناير المجيدة وأجواء الحرية التي عاشتها مصر في فترة الربيع العربي والتي كانت صادمة مريرة على العدو الصهيوني كما نرى من تصريحات كل قادته وأصحاب القرار فيه، مثل «يوسي بلين» وزير القضاء الأسبق والزعيم السياسي اليساري، الذي أقرّ في إطار التحذير من نجاح ثورة يناير وخلع “مبارك” بأن: «الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة كانت دومًا تُفضل التعامل مع الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي لأنها تكون في العادة «براغماتية» تكتفي بدفع ضريبة كلامية في دعمها للفلسطينيين، لكنها في الخفاء لا تتردد في إقامة تحالفات مع إسرائيل وذلك بعكس الأنظمة الديمقراطية التي تخضع للرقابة وتكون مُطَالَبة بأن تتخذ قراراتها على أساس شفاف»!.[*]..
وهو ما ظهر صدقه عندما أجبرت المقاو*مة حكومة العدو على إطلاق سراح أكثر من ألف أسير فلسطيني مقابل الإفراج عن جلعاد شاليط ولكن بعد ثورة يناير وخلع الدكتاتور “حسني مبارك”!.
في النهاية لا يمكن أن أنسى شخصيا هذا الموقف الذي انتهت به تلك الوقفة عندما سارعت مثل العشرات في محاولة لمصافحة الشيخ الجليل أحمد المحلاوي أو حتى رؤيته من قرب ولكن كثرة الزحام عليه أدى إلى مغادرته سريعا خوفا على صحته وإشفاقا على ضعفه -حفظه الله ورعاه- فلم أتمكن من الاقتراب منه. ولكن فجأة وأنا أقف أسفل درجات السلم، وجدتني أمام المستشار “محمود الخضيري” الذي طالما قرأت عنه وعن قيادته لانتفاضة القضاء وتصديه لمبارك واستبداده من خلال رئاسته لنادي قضاة الإسكندرية قبل أن يسيطر “أحمد الزند” ورفاقه على القضاء في مذبحة أخرى للقضاء أواخر عهد مبارك!.
ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أمد يدي لمصافحة تلك القامة الشامخة والشخصية العظيمة محاولا تقبيل يده، لكنه سحبها بسرعة رافضا تقبيلي إياها وهو الشيخ الجليل في السبعين من عمره، ثم أمسك رأسي وقبّلها دون سابق إنذار أو أدنى معرفة سابقة حتى اغرورقت عيني بالدموع ولم أدري ما أقول وأنا أراه ينزل درجات سلم المسجد الخارجية ويركب سيارته وينصرف!.
فكانت هذه هى المرة الثانية التي أحظى فيها بمصافحة شخصية عامة من ضمن ثلاث مرات فقط على مدار حياتي حتى الآن..
وربما يكون للمرتين الأولى والثالثة حديث آخر بإذن الله تعالى…
كتبه الفقير إلى عفو الله/ أحمد الشريف
١٢ يناير ٢٠٢٣م / ١٩ جمادى الآخر ١٤٤٤هـ.
#معركة_الوعي_أم_المعارك
[*] العلاقات المصرية الإسرائيلية صالح النعامي صـ١٨، طبعة الدار العربية للعلوم ناشرون، الدوحة سنة ٢٠١٧م/١٤٣٨هـ.
- أحمد الشريف يكتب: ذكريات من كتاب الوجع العربي !. - السبت _14 _يناير _2023AH 14-1-2023AD
- أحمد الشريف يكتب: في وداع سيّد العلماء وإمام المفكرين - الأربعاء _28 _سبتمبر _2022AH 28-9-2022AD
- أحمد الشريف يكتب: السلام على الطريقة الصهيـونيـة !. - الأثنين _25 _يوليو _2022AH 25-7-2022AD