أحمد الشريف يكتب: الدراما التاريخية بين «قيامة أرطغرل» وأعمال وليد سيف!.

في حوار مع صديقي المعجب بالمسلسل التركي «قيامة أرطغرل»، ذكرت له أن المسلسل ضعيف البنية تاريخيّا بالإضافة للمبالغة الساذجة في كثير من أحداثه ومعاركه ودسائسه التي حولته من عمل تاريخي هادف إلي عمل تجاري محض مماثل عندنا لفيلم «عنترة بن شداد»!..

مع الاعتراف بالدور الدعائي الذي قدمه للدولة العثمانية بالطبع، والهدف النبيل لمحاولة ربط الدولة التركية الآن بميراثها التاريخي العظيم إبان الإمبراطورية العثمانية الإسلامية، من أجل مواجهة الفرضية العلمانية التي يقدسها الدستور التركي منذ العهد الأتاتوركي!.

ولكن بعد انتهاء العمل بمواسمه الخمس وحلقاته الـ١٥٠،

هل نستطيع تقدير العمل كقيمة تاريخية وتوعوية أم لم يعلق بالذهن إلا معارك «أرطغرل» وفرسانه ضد خيانات المنافقين ومؤامرات الكفار؟!.

فإنه من المحزن أن يهدر كل ذلك الوقت والإمكانيات في هذا النص السطحي الترفيهي، مع مراعاة أن الدراما بالأساس عمل للتسلية والمتعة وليست دروسا وعظيّة أو مسلسلات وثائقية!.

أعمال درامية عظيمة

وهنا نضرب المثل بأعمال تاريخية عالية المستوي من الناحية الفنية والتأريخية كتبها الأديب المثقف الفلسطيني الدكتور «وليد سيف» وأخرجها المبدع السوري الفنان «حاتم علي»، لأنها جمعت بين الحسنيين القيمة والتسلية في آن واحد!…

والتي بدأت بالناصر صلاح الدين سنة ٢٠٠١م، وانتهت بالفاروق عمر في ٢٠١٢م،

وبينهما ثلاثية الأندلس «صقر قريش، وربيع قرطبة، وملوك الطوائف»،

وعمل معاصر وحيد أكثر من رائع مع ما فيه من مأساة مبكية،

هو التغريبة الفلسطينية الذي يجسد التاريخ الفلسطيني منذ الثورة الكبرى في منتصف الثلاثينيات وحتى النكسة الرهيبة والهزيمة الذليلة للعرب في أواخر الستينات،

من خلال أسرة فلسطينية عاشت كل تلك الأحداث وتشتتت مرتين الأولى مع النكبة العربية في ١٩٤٨م، والثانية في نكسة العام ١٩٦٧م!.

وهى في المجمل أعمال درامية عظيمة تشكل لمن لا يقرأ صورة تكاد تكون مطابقة للحدث التاريخي، رغم ضعف الإمكانيات التي يذهب معظمها للملابس والديكورات والتصوير وليست أجورا للممثلين كما يفعل السفهاء في مصر!..

ولن أتعرض في الحديث للنواحي الفنية فلها أهلها، ولكن ما يهمني هنا هو التركيز على القيمة المستفادة من العمل وما الذي يستخلصه المشاهد بعد انتهاء المشاهدة!.

ومثال لذلك مسلسل «الناصر صلاح الدين الأيوبي»؛

الذي تناول بدايات الجهاد ضد الصليبيين من خلال أسرة آل زنكي وعميدهم المجاهد الكبير «عماد الدين زنكي» أمير الموصل، الذين تصدوا دون غيرهم من أمراء المسلمين لمَهمة مقاومة الصليبيين وطردهم من كافة الأراضي الإسلامية المحتلة وفي الصدر منها القدس الشريف، وتحرير بلاد الإسلام التي اُحتلَّتْ نتيجة الحملة الصليبية الأولى القادمة من أوروبا في أول القرن الثاني عشر الميلادي!..

وكانت البداية الحقيقية لثمرة ذلك الجهاد هو تحرير إمارة الرها سنة ٥٣٩هـ/ ١١٤٥م، واستخلاصها من أيدي الصليبيين على أيدي المجاهد عماد الدين زنكي وقواده من آل أيوب، وهو الحدث الذي أفزع الصليبيين وجعلهم يحشدون لحملة ضخمة ثانية يتم الحشد والدعوة لها في أوروبا عن طريق الكنيسة الرومانية الغربية للقضاء على هذه القوة الوليدة للمسلمين، تحسبًا لضياع باقي إماراتهم وفي القلب منها مملكة القدس!..

وقد عرض المسلسل ببراعة تفصيلية لكيفية سقوط الحملة أمام أسوار دمشق بفضل صمود أسطوري لأهلها بقيادة حاكمها «معين الدين أنر» في ١١٤٩م!.

نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي

ومع سقوطها بزغ نجم أحد أعظم حكام المسلمين بل أحد أعظم الشخصيات الإسلامية عبر التاريخ وهو الملك العادل «نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي» 

الذي أكمل مسيرة الجهاد بعد أبيه ؛ والذي كان من قواد جيشه ووزرائه والد صلاح الدين الأيوبي «نجم الدين أيوب» وعمه «أسد الدين شيركوه»..

ثم رأينا كيف استطاع الملك العادل «نور الدين» أن يجمع بين يديه سلطان الشام كله؛ وهدفه الأعظم تحرير بيت المقدس،

مما دفعه لبناء منبرا عظيما، حتى إذا منّ الله عليه بالفتح والتحرير، وضعه في المسجد الأقصى ليخطب عليه الخطباء في صلاة الجمعة!..

وبالفعل وضع صلاح الدين هذا المنبر في المسجد بعد ذلك وقد ظل شاهدا علي جهاد «نور الدين محمود» حتي حرقه الصهاينة بعد نكسة عبد الناصر في ٢١ أغسطس ١٩٦٩م، عندما حُرق الجزء الشرقي من المسجد!..

كما جسّد المسلسل كثير من الشخصيات العظيمة مثل شخصية «عصمت الدين بنت معين الدين أنر»

والتي تزوجها نور الدين محمود وبعد وفاته تزوجها الناصر صلاح الدين الأيوبي!..

ومن محاسن العمل

التعريف بشخصية القاضي الفاضل والمجاهد الفقيه «عبد الرحيم بن علي» أحد أهم رجال الناصر صلاح الدين؛

وإلقاء الضوء على شخصيات لها قيمتها في تاريخ الإسلام مثل العماد الأصفهاني الكاتب والشاعر الكبير وأيضا رجل السياسة والحرب أسامة بن منقذ وغيرهما…

وبطبيعة الحال تعرض لشخصيات وضيعة وخائنة لوطنها وإسلامها مثل شخصية «شاور» الوزير الفاطمي

الذي كان حليفا دائما للصليبيين وأيضا شخصية «سعد الدين كمشتكين»

وتآمر مع جماعة الحشاشين الباطنية الذين حاولوا أكثر من مرة اغتيال الناصر صلاح الدين!

المحطات الرئيسية في حياة الناصر صلاح الدين

ومنه أيضا تعرفنا على المحطات الرئيسية في حياة الناصر صلاح الدين بمصر، منذ دخلها في جيش «نور الدين محمود»،

تحت قيادة عمه ومعلمه «أسد الدين شيركوه»، وكيف اختاره الخليفة الفاطمي «العاضد»،

خلفا لعمه بعد وفاته ولقَّبَه بالملك الناصر ليكون وزيرا لمصر ومدبرا لأمرها في نهاية العهد الفاطمي،

وسبب ذلك أنه كان أصغر أمراء جند الشام، حيث كان في الثلاثين من عمره وقتها،

فلعله –حسب رأي العاضد– يكون أقل رجال نور الدين خبرة وأكثرهم طواعية للخليفة الفاطمي!.

ولكن الناصر خَيَّبَ ظن الفاطميين،

ونهض بالأمر علي أكمل وجه، وقضى علي مؤامرات مراكز القوى وبطانة الخليفة الفاطمي وقتل رئيسها «مؤتمن الخلافة»،

ثم خلع الخليفة العاضد وقطع الخطبة له في المساجد،

وأمر الخطباء بالدعاء لأول مرة منذ مائتي سنة من حكم الفاطميين في مصر، للخليفة العباسي في بغداد

ومن بعده للملك العادل «نور الدين محمود زنكي» في دمشق الذي صار بذلك سلطان مصر والشام؛

ونائبه في مصر هو الملك الناصر والوزير الأجَلَّ  «يوسف صلاح الدين بن نجم الدين أيوب»..

ثم ما كان من خروج الناصر بجيش مصر بعد وفاة الملك العادل لكي يضم الشام تحت حكمه مع مصر،

من أجل توحيد راية الجهاد ونصب عينيه تحرير بيت المقدس،

خاصة مع تصارع قواد نور الدين وأركان دولته على الحكم بعد وفاته وما نتج عنه من تفتيت القوة الإسلامية!.

المعارك والوقائع العظيمة

ولم يخلُ المسلسل أيضا من المعارك والوقائع العظيمة بين المسلمين والصليبيين

وعلي رأسها موقعة حطين العظيمة ثم حصار وفتح بيت المقدس بعد ٨٨ سنة من احتلاله وجعله زريبة لبهائم الفرنجة الصليبيين،

وهو الفتح العظيم الذي خُتمت به أحداث المسلسل الغزيرة والتي مثّلت حوالي نصف قرن من التاريخ الإسلامي في أخطر فتراته …

والعجيب أن كل هذه الأحداث لم تستغرق أكثر من ٢٢ ساعة فقط من وقت المشاهد!. أي أقل بكثير من معشار وقت مسلسل أرطغرل الذي وصل إلي أكثر من ثلاثمائة ساعة كانت كفيلة بعرض كامل تاريخ الدولة العثمانية البالغ ستمائة عام!..

وهناك ميزة كبيرة لتلك الأعمال لا نفاضل بها المسلسلات التركية، لأن لكل لسانه ولغته التي يعتز بها..

فبمناسبة اليوم العالمي للغة العربية،

ولمن يعشق لغة الضاد ويقدرها فإنه من أجمل ما تمتاز به هذه الأعمال، روعة الحوار وذكائه وبلاغته الشديدة التي لا تمل النفس إعادتها ..

لما فيه من بديع اللغة وسلالستها بعيدا عن التقعر والتنطع فضلا عن الرسائل التي تلائم حالنا الآن أكثر من أي وقت مضى!.

مثال ذلك مشهد تولّي نور الدين الإمارة في مدينة حلب بعد مقتل والده الأمير المجاهد عماد الدين زنكي في العام ١١٤٦م..

حيث وقف نور الدين خطيبا في القوم:

«إنما جمعتكم لأبين لكم سياستي، وأسمع منكم النصح والمشورة، فأنتم أهل الحل والعقد ..

فمن وافقت سياستي هواه لَزِمَني ما شاء الله، ومن رغب عنها فارقني إلي غيري وهو علي الخيار من أمره..

أما ما كان عليه الملك الشهيد عماد الدين زنكي رحمه الله، من طلب العدو وبذل النفس فيه، فنمضي فيه قدما إلي غايته بإذن الله ..

وغايته بيت المقدس وتحرير الساحل من الفرنجة، فلا يبقي فيها فِرِنْجِيِّ، إلا من جاء حاجا مستئمنًا، فلا والله لا نرده …

ولا تصح عنا هذه الغاية إلا بشرطين:

 الأول هو العدل في الناس وإصلاح حالهم ..

والثاني؛ وحدة الأمة واجتماع كلمتها ..

أما العدل في الناس فيكون برفع المغارم والمكوس (الضرائب) إلا ما يقدرون عليه!..

هنا قال له أحد قواده: إنما زادت المكوس لحاجة الجهاد وتجهيز الجيوش..

فقال نور الدين: ذلك لأننا كنا إذا احتجنا للزيادة استوفيناها من نفقة الناس ولم نشأ أن ننقص من نفقة دورنا وحاشيتنا!.

فالآن نستوفي الزيادة من نفقتنا ونفقة أمراءنا، فلا تُضرّ الرعية ولا تنقص الخزانة بل تزيد!.

وعلى هذا نُرسّم من الآن برفع المكوس المستحدثة..

وأما وحدة الأمة 

فمطلب عزيز لا نتحول عنه، ولكنا لا نطلبه بالسيف فنوغر النفوس ونبعث الأحقاد ونُلجئ اليائس للاِحتماء بالعدو!.

ولكنا نلجأ إلى السياسة والملاينة، ونحتكم إلي الأمة باستباق الخيرات، فإن رأوا العدل فيما تحت أيدينا من البلاد، ورأوا سبقنا إلي الجهاد، انحازوا إلينا وطالبوا أمرائهم بمثله.

فإن فعلوا فهذا هو المراد، وإن لم يفعلوا أقاموا عليهم الحجة..

هذه خطتي وهذه حالي أقيم عليها حتي يستوفي الله أجلي..

وعلى هذا أُشهِدُ الله وأُشهِدُ ملائكته وأشهدكم، فقولوا نسمع …

فرد عليه شيخهم قائلا :

 وفَّيْتَ و كفيت يا محمود!.

نقيم علي هذا معك ما أقمت عليه 

فإن تغيرت تغيرنا عليك! ..»أ.ه‍ـ.

هذا هو الخطاب الذي افتتح به نور الدين حكمه وولايته، وقد بيّن المسلسل كيف انقلب عليه بعض الأمراء والقادة بعد موت الملك المهيب عماد الدين زنكي وحسبوا الضعف وعدم الكفاية في نور الدين!.

لكنه لم يلبث أن نهض بالأمر وظهرت كفايته بصورة كبيرة،

جعلت صلاح الدين يقول عن ذلك:

«حسبوا زهده ورفقه ضعفا، فطمعوا به، حتي إذا شهِدوا بأسه وشدة عزيمته، أدركوا أن الرحمة ليست ضد البأس بل إن البأس سياج الرحمة إذا وضع كلا منها في موضعه ..

فإذا خلا الناس من الرحمة، كانت بطشا وظلما!.

وإذا خلت الرحمة من البأس كانت تفريطا وضعفا!..

والزهد صنو الجهاد الحق، فالإنسان إن خلت نفسه من الدنيا أقبل علي الجهاد إقبال من لا يخشي الموت …

وهكذا كان نور الدين رحمه الله ..

ثم أضاف صلاح الدين؛ لقد تعلمت من أبي نجم الدين وعمي أسد الدين والملك العادل نور الدين الكثير ..

فمن ذكرني ونسىَ هؤلاء فقد ظلم الحق والحقيقة».أ.ه‍ـ.

وعلى نفس هذا المنهج الرشيد كانت أيضا خُطة صلاح الدين،

عقب توليه الوزارة في عهد العاضد لدين الله الفاطمي سنة ٥٦٤ه‍ـ، فقام في رجال دولته خطيبا موضحا سياسته وشارحا خطته:

«أما وقد نفذت مشيئة الله تعالي بتوليتي الوزارة، فإني أعاهد الله أمامكم؛ ألا يصرفني منذ اليوم شيء من متاع الدنيا عن تحقيق الغاية..

وهي صلاح البلاد والعباد ومجاهدة الفرنجة وتوحيد مصر والشام وتحرير بيت المقدس..

وإني أقول لكم ما قاله من هو خير مني لمن هو خير منكم!.

إن رأيتم في اعوجاجا فقوموه، فقد وليت أمركم وما أنا بخيركم ..

أطيعوني ما أطعت الله فيكم، وإن لم أطع الله فلا طاعة لي عليكم ..

وأول هذا الأمر إشاعة العدل وإحقاق الحقوق، فنحن لا ننتصر بالعساكر والآلات فحسب!

بل ننتصر بالأمة كلها فإذا صلح حالها وأمنت ظلم أمرائها، صحّت عزيمتها علي جهاد العدو!.

ثم علينا أن نولي اهتمامنا الجيش، فأنتم تعلمون أن عساكر مصر طوائف متخالفة متدابرة، كل طائفة لا توالي إلا أميرها!.

ونحن نريد أن ننشئ جيشا ليس له وَلاَءٌ إلا لله والأمة والدولة، وليس له غاية إلا مجاهدة الفرنجة وتحرير بيت المقدس»أ.ه‍ـ..

فما أعظمه من دستور كان صلاح الدين صادقا فيه فصدقه الله سبحانه وتعالي وهو القائل في كتابه العزيز :

{مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ..}

فأتم علي يديه – بعد حوالي ١٩ سنة من خطبته تلك – فتح بيت المقدس وتحريره من الصليبيين

وتسلم مفاتيح المدينة المقدسة يوم الجمعة المباركة  ٢٧ رجب سنة ٥٨٣هـ/ ١١٨٧م…

هذه بعض الاستفادة من المسلسل الماتع أما ما كان من ثلاثية الأندلس والفاروق عمر فله حديث آخر بإذن الله تعالى..

كتبه الفقير إلى عفو الله / أحمد الشريف

#معركة_الوعي_أم_المعارك ..

#قراءة_التاريخ_أول_درجات_سلم_الوعي …